لبنان و”رأس المال المعرفي”
نسيب شمس (كاتب وباحث لبناني)/ خاص takarir.net
يحكى أن شركة تعمل في المجال الصناعي في الولايات المتحدة تعرضت لعطل ميكانيكي فني، ناتج عن خطأ بشري تسبب به أحد العّمال، وقد قدرت كلفته بنحو نصف مليون دولار.
السؤال البديهي هنا: ما كان عقاب العامل؟ طبعاً الإجابة ستكون “من المؤكد أنه طرد”. لكن في الولايات المتحدة تم التعامل مع القضية بشكل علمي ومنهجي ومنطقي. للتطمين، العامل لا يزال يمارس عمله بشكل طبيعي.
بكل بساطة، أضيف الخطأ إلى رأس المال المعرفي غير المادي للشركة. فقد كان قرار المدير التنفيذي الابقاء على العامل معللاً بأنه إكتسب معرفة تساعده على تجنب الخطأ مرة أخرى، وأصبح عالما بالمسار الصحيح لعمله بحيث لا يخطئ ثانية، وفي حال طرده ستفتقد الشركة إلى معرفته، وأي عامل جديد قد يقع في الخطأ نفسه، وستتكبد الشركة مجدداً الخسارة نفسها.
تحتاج كل شركة أو مؤسسة أو منظمة إلى رأس مال لديمومة عملها، ولإعادة إنتاجها، وحل مشاكلها
. وفي عالم اليوم يوجد في شركات الأعمال كل من رأس المال التقليدي، وإلى جانبه رأس مال آخر مهم، هو رأس المال المعرفي ، الذي يمكن تجزئته إلى رأس المال المعرفي للمؤسسة، ورأس المال المعرفي للفرد الذي يشير إلى المعارف، والمهارات، والقدرات، والتجارب، والتعليم، والملكات الجوهرية للموارد الإنسانية.
وقد أفرزت الدراسات مصطلحات مثل: رأس المال المعرفي، وأصول المعرفة، والأصول غير الملموسة (أو غير المنظورة) ، ورأس المال غير الملموس (الأثيري). ومع ذلك، ومن منظور استراتيجي، تستخدم المنظمات والمؤسسات رأس المال المعرفي أو رأس المال المعرفي لتكوين القيمة التنظيمية وتعزيزها ولترسيخ النجاح الذي يتطلب وجود القدرة على إدارة هذا المورد الاستراتيجي النادر. لم يكن رأس المعرفي ومفهومه معروفين إلا خلال العقد الأخير من القرن العشرين.
إذاً لا توجد في عالم اليوم والغد شركة تخلو من رأس المال المعرفي. وتبقى هناك مسألة مهمة يمكن طرحها من خلال السؤال الجوهري: إلى أي مدى تعتمد المؤسسات في الحاضر وفي المستقبل على هذا النوع من رأس المال ؟
إن قوة التغيير الصاعدة في جميع المنظمات والمؤسسات هي في اتجاه رأس المال المعرفي، ومن ثم سيتوقف استمرار شركات الأعمال على كفاءتها في الإدارة والقياس والتقويم لرأس المال المعرفي بوصفه المصدر الحيوي الأهم للميزة الاستراتيجية المؤكدة.
ولكن إمكانية قياس رأس المال المعرفي مهمة صعبة جداً مقارنة بسهولة القياس والتقويم للأصول المادية الثابتة والمستقرة التي تعد من العناصر الأساسية لرأس المال المادي التقليدي، وما يزيد صعوبة هذه المهمة أن للأصول المادية حياة محدودة أو عمراً إنتاجياً محدداً، بينما نجد أن أصول رأس المال المعرفي (أصول المعرفة) لها قيمة مفتوحة النهاية ؛ لأنها في الأساس التكويني والوظيفي ليست قيمتها خطية يمكن استخلاصها من مدخلاتها مباشرة، بل هي نتاج مبتكر لشبكة معقدة من القيمة وتحولاتها، فضلاً عن كون أصول المعرفة نفسها مندمجة وضمنية في المعارف والمهارات المخفية للأفراد والجماعات.
تميزت العقود الثلاثة الأخيرة بتصاعد تأثير الأصول غير الملموسة في عملية الإنتاج، وفي تكوين القيمة الاقتصادية للمنظمات والمؤسسات وللمجتمعات وللدول أيضاً، ها نحن نشاهد أن أقوى الشركات العالمية هي الشركات التي يحتل فيها رأس المال المعرفي المرتبة الأولى؛ مثل: ميكروسوفت، فايسبوك، غوغل. وتستمر هذه الظاهرة التاريخية بالتأثير كلما اتجهت الشركات والمنظمات والدول والاقتصاد نحو الاعتماد أكثر فأكثر على المعرفة، حيث أصبحت المعرفة المصدر الأساس للميزة التنافسية.
من تجليات ظاهرة رأس المال المعرفي حدوث تغير جوهري في نمط النمو الاقتصادي العالمي
الذي رافق التطور في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، والثورة المعرفية في جميع المجالات منذ السبعينيات؛ وبصورة خاصة التكنولوجيا الحيوية، والهندسة البيولوجية والوراثية، وصناعة الفضاء، وقد قادت هذه التحولات وغيرها “المعرفة” إلى أن تصبح أهم رأس مال في ظل اقتصاد المعلومات والمعرفة المعولم.
ولا بد من التعرف على علم حديث بدأت نظرياته ومفاهيمه بالتبلور عام 1985 في الولايات المتحدة، وهو علم إدارة المعرفة.
ما ورد أعلاه من كلمات “المعرفة” و”رأس المال المعرفي” هي من مفاهيم هذا العلم. في العالم نعاني قصور في الإستفادة من هذا العلم الهام لبناء مستقبل أفضل، خاصة إن علم إدارة المعرفة يطال مختلف جوانب الحياة والعمل. حيث تنقسم هذا العلم المعرفة إلى فرعين: المعرفة المكتسبة والمعرفة الضمنية.
المعرفة المكتسبة، هي مخرجات التعليم، إضافة لما يتوفر من مصادر للمعلومات بأشكالها وأنواعها كافة.
أما المعرفة الضمنية، فهي ما يعرف عادة بـ “الخبرة”، ولذلك فلكل إنسان معرفته الضمنية التي إكتسبها من خلال مجال عمله، ومن اختباراته العملية لمدى ملاءمة ما تعلمه أو قرأه أو سمعه أو شاهده.
اعتماد “اقتصاد المعرفة” يمكن الدول التي لا تملك الكثير من الموارد من الخروج من أزماتها الاقتصادية، ومن خلال خطط استثمار في الرأسمال المعرفي، ومن خلال تم التوجيه إلى تعليم وتنمية مهارات التفكير، وكذلك تأمين مدخلات تعليمية، وعمليات تشغيل تستفيد من المعرفة بفرعيها المكتسبة والضمنية، بشكل يساعد في الخروج بمخرجات تحقق هذه القفزة النوعية.
فلا بد من الاستفادة من عقول الكبار، فالعالم بدأ بالعودة إلى كبار السن كمستشارين وخبراء. والمعرفة حلقة متصلة، والعقل البشري قادر على تقديم الكثير مما لم نتوصل إليه أو ما قد يفوتنا من معرفة ومعطيات قد تساعد في ابتكار أو إبداع ما قد يكون مفيداً.