أكَلَهُ الطَّمَعُ ثُمَّ لَفَظَهُ عاريًا
الشيخ الدكتور أسامة شعبان:
بسم الله الرحمٰن الرحيم
خبيث النفْس.. جائع الأمس.. أكله الطَّمَع! لم يَعتبِرْ.. لم يَزْدَجِرْ.. وما اقتَنَع! فقير وإن ملَك الدُّنى.. بائسٌ وإن ادّعى الغِنى.. ألا ما أسوأَ عاقبةَ الجَشَع!
وعلى الباغي تدور الدوائر.. والدنيا مَنْجَنُون (دولاب) بأهلها.. والأُولى جِسْر العُبور للآخرة التي فيها المآب والحساب والكتاب والثواب والعقاب… فيا ذُلّ من أفسد وبغى وعاث في الأرض فسادًا بالفعل الأثيم!.. ويا فوزَ من اتقى وزرع خيرًا وأتى اللهَ بقلب سليم!
عَلامَ تطمعُ يا أُكْلةَ الدّود والهوامّ في بيت الوحشة والظلمة والحسرة والكربة؟!.. إلّا من أحسن فوسّع الله عليه ونوّر…
حَتَّامَ يُصِمُّك الطمعُ عن سماع الرشاد، ويغرقك في الفساد، وأذى العباد والبلاد؟!
إلَامَ يتمادى الطمعُ بك، حتى لا يبقى لك صاحب في الدنيا، ومُستذكِر لك بخير بعد رحيلك عن الحياة؟!
خُلق الإنسانُ جَمَّاعًا للمال، طَمَّاعًا بالمزيد، خَوَّافًا من الموت، مَيَّالًا للحرام… إلا مَن رحم الله.. وما أقلّهم!
يظن بعض الناس أن مهمته في هذه الدنيا أن يجمع المال، لا يهتم من حلال أو من حرام، وأن يعيش اللذات على أنواعها وأشكالها، حتى يُرضي نفسه الأمارة بالسوء… ولا يبالي! تَعِس عبدُ (الخادم الأعمى) الدرهم والدينار.. المتكالبُ على نعيم الدنيا الزائل الباطل..
قال النبي المصطفى عليه الصلاة والسلام ناصحًا: “وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ” [سنن الترمذي]. التزم القناعة والرضا بما قسم الله لك. وقال: “ما قَلَّ وكَفَى خيرٌ ممّا كَثُرَ وأَلْهَى” [المعجمان الكبير والأوسط للطبراني]. فاعتبِرْ يا إنسان! وقال: “لا تُسْرِفْ وإنْ كنتَ على نهرٍ جارٍ” [سنن ابن ماجه]. فالتزِمْ قَدْرَ الحاجة. وقال: “الاقتصادُ في النّفقةِ نِصْفُ المعيشةِ” [شُعب الإيمان للبيهقي]. فتعوَّدِ الاقتصادَ ولو كنتَ مَيسُورًا. وقال صلى الله عليه وآله وسلم: “مَنْ أَصبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى في جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فكأنّما حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا” [سنن الترمذي].
القناعة اكتفاء نفسيّ، ورضا ذاتيّ، ومنهج حياة…
القناعة كنز لا يفنى (كأنه كذلك).
القناعة صفة النّبيّين، وخصلة الصالحين، ومَنجاة السالكين…
القناعة حصن في الدنيا، وعزّ في الآخرة…
القناعة لا تعني ترك التعلّم، والانقطاع عن العمل، واللامسؤولية واللامبالاة، والعُزوف عن الزواج والذرية، والانصراف عن عمارة الأرض بالصالحات، والتّنكُّب عن الإنتاجيّة المفيدة، وعدم تملُّك ما يجعلنا أقوياء لنخدم مجتمعنا ووطننا وأمتنا.. لا.. ولا بأيّ حال..
القناعة أن تعيش حياتك؛ صابرًا شاكرًا مُحتسِبًا راضيًا بالقسمة…
القناعة أن تعيش عل منهاج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، داعيًا بمثل دعائه الشريف: ” اللَّهم اجعلْ رزقَ آلِ محمّدٍ قُوتًا” [متفق عليه]. ما يَسُدّ الرَّمَق، الكَفَاف، ما يكفيهم ولا يُحْوِجهُم إلى سؤال الناس، فلا يطمعون في مزيد، ولا يخافون من نقصان.
القناعة قرار كبير يُتَّخذُ، فالأول مُرٌّ، والباقي هناءةُ فِكْر، وراحةُ بالٍ، وطُمأنينة وسكينة…
القناعة صُلْح مع النَّفْس المطمئنة.. وأمان داخلي، تظهر أماراته على قسَمات الوجه، وأفعال الجوارح، وأقوال اللسان.. فمِن ذلك عَشْرٌ:
1- ذكر الله؛ تهليلًا وتسبيحًا وتحميدًا وتكبيرًا…
2- شُكر الله اللسانيُّ: الحمد لله على كل حال، الحمد على نعمه التي لا تُحصى ولا تُحصر، الحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات، الحمد لله أنا في نِعَمٍ…
3- استحضار قصص الورع والكرم عند القانعين والمسلِّمين، من الأنبياء والصالحين.
4- الإكثار من عبارات التسليم لله تعالى: حسبي الله ونعم الوكيل، لله ما أخذ ولله ما أعطى، إنّا لله وإنّا إليه راجعون، لا حول ولا قوة إلّا بالله…
5- التخفيف من المباحات المستلذّات وما يسمّى “الكماليّات” في الحياة، والأخذ بعزائم الأمور، وانتهاج طريقة الزهد والتقليل من التنعم، وترك الشُّبُهات.
6- التعوّد على الصوم المَسْنُون، لا سيما يومي الاثنين والخميس، والتقليل من الطعام والشراب.
7- ترك التأنّق بأطايب الطّعام ولذائذ الشراب، ومجانبة الحرص على التنعّم، والتزام الإحسان والإكرام.
8- مصاحبة الأخيار الزاهدين المحبّبين بسلوك درب الآخرة ونعيمها، المنفّرين من وسخ الدنيا وحرامها.
9- استذكار الموت، وأن الدنيا مُرتحِلة في إدبار، وأن الآخرة مُرتحِلة في إقبال، والنجاة لمن كان من أبناء الآخرة، وليس من أبناء الدنيا، والفوز لمن استثمر الخير في دار العمل الآنيّة، لينجو ويرتاح في دار الحساب الأبديّة.
10- اتّخاذ القدوة الحسنة، واتباع النبي محمّد عليه الصلاة والسلام، ونُخبة رجالات الأمة وكُبرائها وزهّادها، رضي الله عنهم:
كأبي بكر الصدّيق الذي أنفق كلَّ ماله على الدعوة وصاحبها عليه الصلاة والسلام، وخرج أول يوم من خلافته يحمل بضاعة بُغية بيعها ليكفي نفسه.
كعمر بن الخطاب الذي كانت كنوز الفتوحات في قبضته، فجعلها تحت رجليه، جوَّع بطنَه ليُزكّيَ نفسَه ويؤدّبها.
كعلي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي كان يُؤْثر الفقراءَ على نفسه مع الحاجة، وعاش فقيرًا وتُوفّي كذلك.
كعمر بن عبد العزيز الذي كان من أغنى الناس وأجملهم وأعطرهم وأحسنهم لباسًا، وزوّجه اللهُ فاطمة بنت عبد الملك، بنت الملوك، فمات خليفةً على فراش الزهد لا يملك إلا الثوب القديم الذي يلبسه.
تأمّلْ كيف تختبرنا الحياة، فهنيئًا لمن صبر وشكر.. تأمّل كيف جعل الطّمعُ والجشع يأكلُ كثيرُ الناس قليلَهم.. تأمّلْ تعجيل عقوبة الله للبعض في الدنيا، وتأخيرَ الكثيرِ منهم للآخرة، وما الله بغافل عمّا يعمل الظّالمون.. تأمّل شيئًا من وَبال الظُّلّام الفاسدين، وشؤْم بغيهم في الفانية قبل الباقية.. تأمّل كمّ الدّعوات من المظلومين على ظالميهم، وأن دعوة المظلوم ولو كان كافرًا لا تُردّ، بمشيئة الله، في الزمان والمكان والطريقة المعلومة.. تأمّلْ قول النّبي المرتضى محمّد عليه الصلاة والسلام، ولا تكن منهم ما استطعت إلى ذلك سبيلًا: “لو كانَ لابنِ آدمَ واديانِ مِنْ مالٍ لابتغى ثالثًا، ولا يَملأُ جوفَ ابنِ آدمَ إلّا الترابُ، ويتوبُ اللهُ على مَنْ تابَ” [متفق عليه].