جريدة الاخبار الاثنين 25 شباط 2019
يبدو حزب الله مصرّاً على استكمال المعركة الرامية إلى كشف تفاصيل «الحسابات المالية» للدولة. هذه الحسابات التي كشفت لجنة المال والموازنة النيابية عام 2010 وجود «كوارث» فيها، قبل أن تنجز وزارة المال توثيقها في العام 2018. الملف لم يُسلّم للمجلس النيابي بعد، لكن ملامحه صارت جلية، وهي في معظمها تتعلق بفضائح لن يكون بالإمكان طمسها بتسويات سياسية
البداية كانت مع فضيحة تصفير حسابات الدخول لعام 1993 (اتخذ القرار عام 1995). يتبين من خلال تحديد رصيد الحساب الجاري في المصرف المركزي أن ميزان الدخول لذلك العام كان بقيمة 152 مليار ليرة. وهنا يبدو جلياً أنه لو اكتُفيَ بتسجيل القيد الظاهر في الحساب، لكانت الحسابات قد بُنيت على رقم أقرب إلى الدقة، بدل الصفر الذي سمح عملياً بإخفاء حقيقة الكثير من الأمور. أما الحديث في حينها عن صعوبة تحديد حساب الدخول، بسبب مرور نحو سنتين، فقد أثبت بطلانه وطرح أكثر من علامة استفهام، بعدما تمكنت دوائر وزارة المالية من تحديده بعد مرور 21 عاماً (2014)، إضافة إلى تمكنها من إعادة تكوين كل حسابات الدولة (13 حساباً) وتحديد موازين الدخول لكل السنوات التي تلت.
سلف غير مسددة وهبات غير مسجلة وشيكات غير محصّلة وحوالات مدفوعة مرتين
للتذكير، وبالتوازي مع كشف فضيحة الحسابات في لجنة المال والموازنة في عام 2010، جرت محاولات عديدة لإمرار تسوية للحسابات، من غالبية وزراء المالية المتعاقبين، وفي مقدمهم فؤاد السنيورة وريا الحسن. أبرز المحاولات وأشهرها تلك التي قامت بها وزيرة الداخلية الحالية، في 7 أيلول 2010. حينها أودعت رئاسة مجلس الوزراء مشروع قانون مؤلفاً من ورقة واحدة، وينص على قطع حساب السنوات الممتدة من 2006 لغاية 2009 ضمناً. ويجري التداول حالياً بصيغة قانونية تؤدي عملياً إلى «إخفاء» كل «الارتكابات»، من خلال إصدار قانون يؤدي عملياً إلى «تصحيح الأخطاء في الحسابات»، بدلاً من ملاحقة المسؤولين عن الجرائم المرتكبة بحق مالية الدولة.
في تفاصيل ما تكشفه التقارير التي أعدتها وزارة المالية، يتبين أن جزءاً كبيراً من سلف الموازنة لم يكن مسدداً، ربما لثقة المتلقي بأنها لن تظهر في الحسابات. والدليل على ذلك أنه بعد عام من الانتهاء من التدقيق في حسابات سلف الموازنة لعام 2013، حُصِّل نحو مليار ليرة، تمثّل جزءاً من سلف ممنوحة لقيّمين على السلف بين عامي 1997 و2010، ولم يبادروا إلى تسديدها.
واللافت أيضاً أن ثمة سلفاً لا تزال عالقة بسبب طبيعة الإنفاق المرتبط بها. فعلى سبيل المثال، تبين أن وزيراً حصل على سلف موازنة لشراء مجوهرات وهدايا من المال العام. أما سبب شرائها عبر سلف موازنة، فيعود إلى النيّة لتضييع الحسابات والتصرف بالمال العام خارج إطار الرقابة.
وكما حساب السلفات، كذلك حساب الهبات، حيث تبين خلال السنوات الماضية أن 8 في المئة فقط من الهبات الصادر مراسيم بشأنها قد سجلت في حسابات الهبات، فيما لم يسجل 92% منها. كذلك قُبضَت هبات من دون صدور مراسيم لها كما تقتضيه القوانين والأنظمة المرعية الإجراء، وقيمتها نحو 270 مليار ليرة (الهبة العمانية على سبيل المثال). وقد بلغ مجموع الهبات التي صرفت من دون إجازة من الحكومة ومن دون أن تسجل في قيود وزارة المالية ثلاثة مليارات دولار.
في حساب القروض، على سبيل المثال، يتبين أنه في عام 1997 حُوّلت اتفاقية قرض إلى المجلس النيابي بقيمة 30 مليون دولار، لشراء محرقة لاتحاد بلديات المتن الشمالي. التدقيق في المستندات يبيّن أن لبنان لم يتسلّم المحرقة، والمجلس النيابي لم يبرم الاتفاقية، لكن وزارة المالية سدّدت القرض!
ولأن التسيّب كان سمة الحسابات المالية، فقد استسهل بعض الموظفين التصرف بالمال العام خلافاً للقانون. فعلى سبيل المثال، أقرضَ بعض أمناء الصناديق الأموال العمومية لقاء فائدة أو حتى إجراء صفقات تجارية مموّلة من الأموال العمومية. كذلك استفاد المختلسون من تقطّع أوصال مراحل التدقيق، حيث لم يكن يُلاحَق أمين الصندوق الفرعي لتسديد يوميته في الصندوق الرئيسي، ومن ثم في مصرف لبنان. وهذا الأمر مثبت في قرار اتهامي لمحكمة جنايات بيروت.
كذلك ضبطت عمليات اختلاس في بعض الصناديق، وتبين أن معتمد قبض يقوم بإصدار عمليات قبض مزورة. وكشفت أيضاً شيكات مرتجعة استبدلت واستخدمت من قبل شخص غير الساحب. كما تبين وجود شيكات غير محصّلة/ مفقودة بقيمة 640 مليون ليرة، أُعيد وضعها قيد التحصيل عام 2015 بعد التواصل مع المصارف التجارية التي أصدرتها. وكُشف عن تسجيل قبض شيكات مرتجعة مرتين، ما أدى إلى تضخيم حساب الودائع الخاص بوزارة الشؤون الاجتماعية.
في ما يتعلق بالحوالات، تبين قيام أمين صندوق بعمليات اختلاس من طريق دفع حوالات بأكثر من قيمتها بقيمة إجمالية تخطت 2 مليار ليرة. كذلك كشفت عملية إصدار حوالتين تحملان الرقم نفسه لصالح المديرية العامة للدفاع المدني، إحداهما بقيمة 19 مليار ليرة والثانية بقيمة 18 مليار ليرة. وفيما حوّلت القضية إلى النيابة العامة المالية، تدور الشكوك حول أمرين: إما أنه جرى صرف الحوالتين، وبالتالي اختُلِسَت الأموال، أو أنها لم تصرف، ما يقود إلى السؤال عن سبب عدم إلغاء إحداها.
لم تكن البيانات المالية لوزارة المالية تعكس حجم الدين الفعلي بسبب عدد من الأخطاء أبرزها عدم تسجيل السحوبات والأصول المموّلة من طريق القروض. وهو السبب الذي أدّى إلى كون حسابات القروض مدينة، إذ تسجّل فقط عمليات التسديد. ومردّ ذلك إلى أن أموال السحوبات تُحوّل مباشرة إلى مجلس الإنماء والإعمار (أو في بعض الأحيان مباشرة إلى المقاول contractor المتعاقد مع مجلس الإنماء والإعمار) أو إلى الوحدة المنفذة في مشاريع الإدارات العامة. وفي المقابل، لم تلزم وزارة المالية تلك الجهات بآلية عمل تسمح بتسجيل الأصول التي حصلت عليها الحكومة والمموّلة من القروض.
خلاصة النماذج التي اطلعت «الأخبار» عليها في التقارير التي أعدتها وزارة المال، أن حسابات الدولة بقيت طوال عشرين عاماً (بين 1993 و2013)، كمغارة بلا باب، يمكن لأي كان رمي ما يشاء فيها، وأخذ ما يشاء، بلا حسيب ولا رقيب. وسيبقى الفاعلون مجهولين إلى أن تُحال الملفات على الأجهزة المختصة ومجلس النواب، ليُعرف السارق من المهمل!
ليست الأشباح من وظّفت!
تبدأ لجنة المال والموازنة اليوم سلسلة جلسات مخصصة لملف التوظيف في القطاع العام. وستعمد اللجنة في جلسة اليوم إلى مناقشة تقارير التوظيف مع كل من التفتيش المركزي ومجلس الخدمة المدنية، قبل أن تنطلق لمناقشة مضمون التقرير مع الجهات التي شهدت أكبر نسبة توظيف. وعليه، ستخصص جلسة الثلاثاء لوزارة التربية والتعليم العالي، وجلسة الأربعاء لوزارة الصحة ووزارة الشؤون الاجتماعية، وجلسة الخميس لوزارة الاتصالات وهيئة أوجيرو.
وأشار رئيس اللجنة ابراهيم كنعان إلى أنه «ليست الأشباح من وظّفت بل هناك مخالفون لقانون وقف التوظيف، ونحن امام تعاقد يمكن إنهاؤه وإعادة الوضع الى ما كان عليه قبل مخالفة قانون وقف التوظيف».
من جهة ثانية، أكد كنعان إصرار اللجنة على «متابعة ملف الحسابات المالية الذي حملناه منذ العام 2010، والذي وصل إلى نهايته في ضوء استعداد وزارة المال لتقديم تقريرها حول الحسابات». أضاف: «متابعتنا لملف التوظيف ستقود الى نتائج مماثلة وتقارير سترفع لرئاسة المجلس النيابي ورئاسة الحكومة ومجلس شورى الدولة».