محمد حسين بزي لـ«مرافئ لا»: روايتي «شمس» محاولة لتفجير الوعي التاريخي بعظمة الحضارة اليمنية
نشوان دماج “مرافئ لا” اليمنية
«الأيّام الّتي لا تمرّ مفعمة بالكثير، لا تعدّ من العمر في شيء»
هكذا يبدأ الروائي والشاعر الكبير الدكتور محمد حسين بزي، روايته «شمس»، جائلاً في شاهق الحضارة اليمنية القديمة، بين شمس وابن عمها مالك، لينسج قصة حب خالدة.
الدكتور محمد حسين بزي من مواليد 1971 بمدينة بنت جبيل، جنوب لبنان. دكتوراه في الفلسفة والإلهيات، صدر له 17 كتاباً في السياسة والأدب والفكر والفلسفة، و3 دواوين شعرية، وعدد من الروايات والمجموعات القصصية، ومنها رواية «شمس أميرة عربية عاشقة»، الصادرة في 2017، وتُترجم حالياً للفرنسية والإسبانية.
يُشرف بزي على مشروع تعريب ونشر الآثار الكاملة للمفكر الراحل الدكتور علي شريعتي، حيث حقّق العديد من مؤلفاته التي تصل إلى 60 كتاباً، وقد صدر منها حتى الآن 31 كتاباً.
مرافئ «لا» التقى الدكتور بزي في حوار حول أدب وثقافة المقاومة، والحاجة إلى الانتقال من ثقافة المقاومة إلى ثقافة الانتصار، بالإضافة إلى التوقف عند بعض من محطات حياته الأدبية والمقاومة، فإلى الحوار:
«شمس» ولدت من رحم التاريخ
مرحبا بك سعادة الدكتور محمد حسين بزي، ولنبدأ حوارنا معك من روايتك «شمس» الصادرة في 2017، والتي أرخت لحقبة زاهية من الحضارة العربية.. إلى أي حد استطعتم استشفاف ذلك الماضي وصوغه في قالب روائي؟
بداية أشكركم على هذه الفرصة التي أتاحت لي للمرة الأولى أن أخاطب أهلي وأحبائي في اليمن العزيز.
بالنسبة لرواية «شمس»، هي وباختصار رواية الموقف الحضاري من تاريخ شبه الجزيرة العربية.. وهو موقف على عدة صُعد تنوع في المُخاطَب، وتوحد في الهدف والمضمون التاريخي.
بمعنى: إنّ الشعوب والأمم الحيّة تحتفي بتاريخها، وبإرثها الحضاري في مختلف حقب العمران البشري، تنقّب عنه في باطن الأرض، تستخرجه وتحفظه في متاحف تليق به، وتبذل دون ذلك الغالي والثمين، وتخصّصه بوزارة أو بهيئة إشراف حكومية متخصّصة؛ وبتمويل لا حدّ له، شرط أن يضمن المحافظة على التراث، انظر مثلاً إلى متاحف مصر التي تربو على المائة متحف منذ عصر الفراعنة وحتى متحف طه حسين، ستجد أنّ الكثير من تاريخ الفراعنة وحضارتهم عُرف بعد تنقيبات كبرى عن آثارهم المعمارية والهندسية، ومن ثم فك رموز رسوماتهم وحروف منحوتاتهم، لدرجة أنّه أصبح هناك من يدرس ويُدرِّس اللغة الهيروغليفية التي استخدمت لنقش وزخرفة النصوص الدينية منذ آلاف السنين، وبقيت لغة كتابة متداولة حتى القرن الرابع الميلادي، حين تم فك رموزها بمساعدة الكشف الأثري لحجر رشيد على يد الفرنسي شامبليون، عام 1799. وقد نشأ عن هذه الكشفيات علم مستقل يدرّس في الجامعات العالمية، هو علم المصريات.. بينما للأسف تجد في المقابل أنّ بعض دول شبه الجزيرة العربية لاتزال تحرّم التنقيب عن الآثار، وتعتبره إحياءً للصنمية والوثنية.
مثال آخر متاحف إيطالية، عدا أنّ روما القديمة بحد ذاتها عبارة عن متحف كبير، وقد زرت إيطاليا عدة مرات، وأول زيارة خصّصتها لزيارة المتاحف والأماكن التي تنضح تاريخاً وتراثاً وعلوماً، بغض النظر عن موقفي الشخصي من ذلك التاريخ أو تلك العلوم، لكنّها تراث هائل من سيرورة التاريخ وصيرورته. فمثلاً عندما تدخل إلى متحف الفاتيكان الذي أسسه البابا يوليوس في القرن السادس الميلادي، لا تراه مجرّد متحف واحد، بل مجموعة كبيرة من المتاحف الصغيرة، مثل المتحف الجريجوري، والمتحف الأتروسكاني، والمتحف الجريجوري المصري، ومتحف بيو المسيحي، وطبعاً متحف مكتبة الفاتيكان، بالإضافة إلى اللوحات الفنية الشهيرة.
إنّ علم الآثار الذي يحرّمه البعض لصنمية في نفسه، أو لجهل مقيت، يضمن لك ليس كشفيات أثرية وحضارية وحسب؛ بل كشفيات معرفية.. فمن الجرّة الخزفية الصغيرة يمكنك أن تتوصل إلى مدى التطور الحضاري والمعرفي لأهل تلك الأرض، فما بالك عندما تكتشف المعابد والرقميات وما نحت على الصخور من تاريخ ورسائل ووصايا وشعر ورسومات تنبيك حتى عن طرق معيشة القوم وأحوال حياتهم وثقافتهم وأديانهم، هذا الكشف هو بمثابة إعادة صناعة التاريخ الذي مضى عليه آلاف السنين، فتصوّر أنّك تعيد صناعة تاريخ مضى منذ آلاف السنين! أي لذة هذه؟! هنا يكون الهم في مسؤولية الوعي الحضاري، لأنّك هنا تكتشف وعياً بقالب تاريخي، وتحدّده بزمانه ومكانه، مستفيداً منه دروساً للمقبل من الأيام، والعبرة لمن اعتبر. فمن لم يحفظ تاريخه لن يحفظه المستقبل.
قلت ما قلت أعلاه لأقول: رواية «شمس» ولدت من هذا الرحم، ومن هذه الآلام، لكن بالمقابل ولدت من تلك الآمال التي نعقدها على تفجير الوعي التاريخي؛ وإن كانت مخاضاته صعبة، لكنّها ستولد ولو من عزم الأوجاع، لأنّ إثبات أنّه كان لعرب جنوب الجزيرة (اليمن حالياً) حضارات ضاربة في التاريخ قبل الإسلام بمئات السنين؛ ومنها حضارة أوسان، لم يكن بالأمر اليسير في نص روائي.. أمّا إلى أي حدّ استطعت استشفاف ذلك الماضي التليد فهذه أتركها للقارئ النبيه
شخوص مستوحاة من أوسان
شخصية «شمس» وابن عمها «مالك». إلى ماذا ترمز حالة الحب بين الشخصيتين الرئيستين في الرواية، أم أنّها الحبكة فقط اقتضت ذلك؟
لقد أشرت في المقدمة إلى أنّني انتخبت الأسماء، لكنّني انتخبتها من أسماء كانت متداولة في ذلك الزمان، ومن الطبيعي أنّني استعنت بمراجع تاريخية عدّة تحدثت عن تاريخ مملكة أوسان، أهمها: «المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام» للدكتور جواد علي. أمّا عن حالة الحبّ بين شمس ومالك فهي ما فرضته حبكة الرواية بطبيعة الحال، لكن الحبكة بمجملها لم تأتِ من خيال محض، بل كانت مزاوجة بين الخيال وبين ما توصلت إليه من خلال استقراء تاريخي لتلك الفترة.. فطبيعة النظام القيمي من أخلاق وعادات وتقاليد تلك الحقبة الزمنية كانت شبه محكومة بأن تكون قصة الحبّ بين شمس ومالك كالتي حفلت بها الرواية.
أصل العرب وأسّ حضارتهم
ما الذي تمثله الحضارة اليمنية القديمة في رأي الدكتور محمد حسين بزي؟
أصل العرب وأسّ حضارتهم، ورمز عزتهم، وأولى ديار التوحيد فيهم منذ ما قبل اليهودية والنصرانية والإسلام، لأنّ أهل اليمن عرفوا فكرة التوحيد قبل الأديان الإبراهيمية، وقد أطلق بعض الباحثين مصطلح «التوحيد الحميري» على تلك الحقبة، والتي تعتبر امتداداً لما قبل حمير من حضرموت ومعين وسبأ وكهلان وقتبان وأوسان.. وكانوا يطلقون على الإله الواحد: الرحمن وإله السّموات والأرضين، وذلك في نص مؤرخ 449 ق. م. أيضاً ورد في نص آخر يعود للقرن الثامن ق. م.
أقدم الحضارات
التركيز على حضارة أوسان دون غيرها من الحضارات اليمنية العربية.. هل للاسم (أوسان) دلالة خاصة هنا؟ أم أنّه رمز لمجمل تلك الحضارات؟
عندما بدأت بكتابة الرواية حوالي عام 1991 (وأنهيتها خلال سنة تقريباً، ولم أنشرها إلا سنة 2016) لم تكن الدراسات التاريخية عن أوسان وحضارتها متوفرة كما اليوم برغم شحتها.. أمّا اختيار أوسان فكان بهداية من ابن خالي الأستاذ محمود عبداللطيف بيضون (رحمه الله)، وهو أول من حدثني عن الحضارات العربية قبل الإسلام في معرض إجابة على أسئلة كنتُ طرحتها عليه في هذا المضمار. وبهذا يكون لاسم أوسان دلالة خاصة، كما أنّها رمز لمعظم تلك الحضارات.
وعليه، يمكنني تلخيص أهم ما توصلت إليه عن أوسان بالتالي:
من حيث التراث الديني، فإنّنا إذا ما قرأنا العهد القديم «التوراة» نجد أنّ اسم أوسان ورد في الإصحاح العاشر من سفر التكوين باسم «أوزال»، حيث عدّه من أولاد «يقطان» قحطان الثلاثة عشر.
أّمّا من حيث الدراسات التاريخية، فمعظمها يؤكد أنّ مملكة أوسان كانت موجودة منذ القرن العاشر قبل الميلاد، أي قبل ثلاثة آلاف عام. وقد حقّقت ازدهاراً عظيماً في القرن الثامن ق. م. ممّا دفع ملوكها إلى توسيع نطاق سيطرتهم على حساب جيرانهم في قتبان وحضرموت وغيرهما إلى أفريقيا والهند؛ حيث كان الساحل الأفريقي يعرف بالساحل الأوساني، وامتدت تجارة أوسان مع أثينا الإغريقية لفترة طويلة من الزمن. لكن في القرن السابع ق. م. تعرضت أوسان لهجوم عنيف من السبئيين بقيادة المكرب، الملك كرب إل وتر، مكرب سبأ، حيث قتل ملك أوسان «مرتع»، وتمّ تدمير معابدها والقصر الملكي «مسور»، ووزعت أراضيها بين مملكة سبأ وحلفائها القتبانيين.
لكن أيضاً، عادت مملكة أوسان للظهور من جديد في القرن الثاني ق. م. ثم اختفت نهائياً مع بداية القرن الأول ق. م. دون معرفة الملابسات التي أحاطت بظهورها وباختفائها.
عوامل نجاح
إلى ماذا تعزون النجاح الذي حظيت به «شمس»، خصوصاً أنّها تترجم في فترة قياسية إلى عدة لغات؟
هذا يرجع إلى عدة أمور، أهمها:
1 ـ اللغة السهلة التي تنسجم مع قرّاء العربية مهما تفاوتت ثقافتهم.
2 ـ قلّة لا بل ندرة النصوص الروائية التي تحاكي تلك الحقبة الزمنية من تاريخ العرب.
3 ـ الحبكة المشوّقة لقصة الحبّ التي دارت بين الأميرة شمس وابن عمها الأمير مالك.. ومفاجأة القارئ ببطل ثالث في الرواية هو القرد نولان، وغيرها من المفاجآت.
4 ـ الدفاع عن القيم النبيلة، وبثّ مفاهيم الحكمة العملية والنظرية، ومنها التوحيد في فضاء الرواية.
5 ـ الإجابة على السؤال الحضاري المهم: هل كان للعرب حضارة قبل الإسلام؟ وكيف كانت..؟
وحدة الوجود
إذا انتقلنا إلى دواوينكم الشعرية، حيث نجد نفساً صوفياً وفلسفياً عالمياً يتجلّى بشخصياتٍ لها حضورها في الفكر الإنساني، من بوذا فكونفوشيوس إلى دانتي فطاغور، وبين هذين وهذين عشرات الأسماء.. هل نستطيع أن نستشرف منها وحدة وجود ركيزتها الحبّ؟
أنت تأخذني بالإجابة على هذا السؤال إلى معركة فلسفية وفكرية وربما دينية حول «وحدة الوجود»، والتي لا أجانبها كثيراً، لكن بأي حال سأجيب وأمري إلى الله..
نعم يا سيدي أنا أؤمن بـ«وحدة الوجود» بالحد الذي لا يتعارض مع أسس الإسلام الحنيف. ففي الفلسفة والتصوف كان درسي، وكان شغفي، وقضيت معظم ما مضى من عمري رغم آلام البحث ومعاناة التمحيص مازلت على عهدي معهما.
أمّا حضور الشخصيات التي ذكرت؛ فهذا من بديهيات المقال في هكذا مقام.
أشعل صحراء قلبي بنوره
ديوان «أغاني قونية» الأثير إلى قلبك، كما قلت في إحدى المقابلات، لماذا هو بالذات؟
لهذا الأمر خلفية وقصة أوجزهما بالتالي: كما تعلمون فإنّ مدينة قونية التركية كانت موطن الصوفي الكبير «مولانا» جلال الدين الرومي (1207-1273م) وفيها قبره ومزاره المشهور، ومولانا هو صاحب أكبر ديوان شعر صوفي وهو مثنوي (النظم المزدوج) حيث بلغ عدد أبياته 25,632 بيتاً.
لكن، عندما تدرس شخصية الرومي؛ بخاصة في طورها الأخير مع ملهمه «شمس تبريز»، فإنكّ لا محالة ستتأثر بهذه الشخصية، فما بالك لو كنت دارساً للتصوف وللفلسفة، بل تكتب الشعر وتحبه، فهنا سيكون التأثر والتأثير أعمق وأوثق؛ وهذا ما حصل، وجرت الأيام حتى زرت ضريحه في قونية، وكان أن أهديته الديوان «أغاني قونية» كاتباً: «إلى الذي أشعل بخضرة ناره صحراء قلبي بنوره.. إلى مولانا».. ومن ثم بدأت بجمع وتحقيق «الديوان العربي لمولانا»، وأنجزت منه ما يربو على المجلدين، وطبعاً لم يكتمل العمل بعد. وبين «أغاني قونية» و«الديوان العربي لمولانا» كنتُ بدأت سنة 2016، وفي قونية تحديداً، بكتابة رواية عن حياة وفلسفة وحكمة كلٍّ من الرومي وشمس تبريز والسهروردي، وسميتها «في حضرة العشق»، آمل أن تصدر قريباً.
الشعر الأحب إلي
أي من الأنواع الأدبية تجده الأقرب إليك: الشعر أم الرواية؟
كلاهما إلى قلبي حبيب، ولكن الشعر أسرع للفؤاد، الرواية تحتاج أن تكتبها، بينما الشعر هو من يكتبك، وقت ما يشاء، وكيفما يشاء.. الرواية تحتاج أن تجدد وعيك ومعرفتك بالمتابعة والتدقيق والتمحيص، بينما الشعر يجددك دون أن تشعر إلّا وقد أنهيت القصيدة.. الرواية تحتاج الوقت، بينما الشعر يحتاجه الوقت.
تكامل بين التصوف والفلسفة
دراستك للفلسفة هل كانت استمراراً لتعميق التمازج بينها وبين التصوف بالنسبة لك؟
في الإلهيات (حيث درسي) ليس من السهل فصل التصوف عن الفلسفة، خصوصاً من الناحية الأكاديمية، فكلاهما يحتاج الآخر، مكملاً مرة ومعمقاً أخرى.
نهوض بوعي القارئ
ما المهمة التي أخذتموها على عاتقكم في تأسيس دار الأمير؟ وهل كان أداؤها بنفس المستوى الذي طمحتم إليه؟
– دار الأمير تأسست في بيروت عام 1992، كمؤسسة ثقافية للتأليف والترجمة والنشر، وأخذت على عاتقها بإمكانياتها المتاحة النهوض بالقارئ العربي لمستوى الوعي الحضاري لأمته، وذلك من خلال ما تنشره أو تترجمه من كتب ودراسات؛ على قاعدة التنوير والتحرير، تنوير العقل بأدوات معرفية أصيلة، وتحريره من الموروثات الاجتماعية والثقافية والدينية الدخيلة التي أسهمت بركوده وخموده.
رد على الحقد الصهيوني
في عدوان تموز 2006، كان لدار الأمير نصيبها الوافر من الغارات الصهيونية… برأيكم لماذا؟
– نعم يا سيدي، أرادوا تدمير الثقافة الرافدة، أو المؤسِّسة للعزم والبصيرة والمقاومة والانتصار.. فكان نصيبنا 17 غارة جوية مباشرة عدا القصف الصاروخي من البوارج الصهيونية في عرض البحر، وهذا موثق بتقرير رسمي لوكالة «رويترز».. لكنهم خابوا، دمروا الحجر وأحرقوا الكتب، ولم ينالوا من الإرادة المؤسَّسة على الكرامة والعزّة والوعي قيد أنملة.. فدار الأمير وخلال أسابيع قليلة عادت بعزيمة أكبر، وانطلقت كطائر الفينيق، حبرها يحرق نارهم، ونورها يشرق بكتاب الوعد الصادق «يوميات الحرب السادسة» الذي ألفته خلال الحرب، وصدر بعد نهاية عدوان تموز بأسبوعين في بيروت والقاهرة، الأمر الذي فاجأ القريب والبعيد.. المادة الأولى للكتاب كانت 5142 صفحة، لكنّني حرّرتها بـ816 صفحة من القطع الكبير، محتوياً على وثائق وصور كانت تنشر للمرة الأولى، ويعد الكتاب أهم وثيقة تاريخية عن يوميات وتفاصيل الحرب وبعض أسرارها، لأنّه كان من أرض الميدان مباشرة. وقد ترجمت أجزاء منه إلى الإنكليزية والفرنسية والإسبانية والفارسية والتركية والإيطالية، وأصبح مرجعاً للباحثين والمهتمين بتاريخ الصراع العربي الصهيوني. وهكذا ردّت دار الأمير على غاراتهم وحقدهم وهمجيتهم.
قصتي مع شريعتي
اهتمامك بموروث المفكر الاستراتيجي علي شريعتي والعكوف على ترجمة وتحقيق ونشر مؤلفاته، التي كان آخرها «هبوط في الصحراء»… لماذا شريعتي بالذات؟ وما الذي ينبغي أن ينجذب إليه القارئ العربي لدى هذا المفكر؟
– أيضاً تأخذني لمجازفة ثانية في الإجابة على هذا السؤال، وحتى أجيب بشكل وافٍ أتمنى أن تمحني قليلاً من الوقت لأسرد لك من البداية مع الاختصار الذي لا يخل بالإجابة، فأقول وأمري إلى الله في ما أقول، يا سيدي بدأت قصتي مع شريعتي عندما صادر أحد «رجال الدين» كتابي وأنا في الـ15 من عمري، وهي كالتالي:
يعزُّ على ذاكرتي المهترئة أن تنسى ذلك اليوم من سنة 1986، عندما وزّعت المستشارية الثقافية الإيرانية في بيروت مطبوعة لعلي شريعتي عنوانها «عليّ رسالة وحدة وعدالة»، صادرة عن حسينية الإرشاد في طهران. لا أذكر أنّي قرأتها أو حتى تصفحتها؛ فقط حملتها إلى البيت وألقيتها كما ألقى موسى الصحف، ولم تقع عيني عليها إلّا حينما زارنا شيخنا.
كنَّا ثلاثة؛ أنا وشيخنا وأحد أقاربي. وما إن جال الشيخ بنظره فناء غرفة الجلوس ووقعت عينه على مطبوعة شريعتي، حتى انتفض المجلس وانتبهنا إلى جليس رابع أرعب الشيخ وهزّه هزاً وأسال لعاب حنقه وألمع بريق دهشتي، وحُوّلت الأنظار إلى تلك النسخة.. إلى علي شريعتي.
وكنتُ إلى زمنٍ قريبٍ أرى عثراتي من نفسي، أعلمها وأعدّها عداً، أحاذر أن تفصح عني وأحذر أن أتعمد ستره. ولم يجل بخاطري يوماً أن أزن ثبات نفسي بموازين هناتها، وأن أعي وجود أناي بفراسة زلاتها. وهنا، صاح الشيخ: ماذا يفعل عليّ (شريعتي) بـ عليّ؟
قال قريبي: إنّما هي نسخة محمد يا مولانا!
قلتُ: إنّه عليّ أمير المؤمنين بقلم علي شريعتي، فما موجب غضبك؟!
صوَّب إليَّ الشيخ نظرة لا يفهمها إلّا من كانت نفسه حفنة ريح في فوهة خريف؛ وأردف: علي شريعتي رجل ضلّ فأضلّ، فإن كنتَ محباً للإمام عليّ فأنا أكفيك مؤنة ما كتب عنه، وأدرأ عنك رزايا هذا المُضلّ يا ولدي.
بقدرة قادر تأبط الشيخ كتابي ومضى ملقياً السلام وهو يمشي إلى الباب، دون أن يشرب الشاي المُعدّ على شرفه؛ وأنا المصاب بالذهول، لكنّني بدأت أفكر وأتفكّر.. وقايستُ ما جرى من انتزاعٍ لكتابي الذي لم أقرأه بعبارات سمعتها في مجلس أحد العلماء، تتحدّث عن تيارات متزمتة وأخرى متنوّرة، ولم أكن أدرك كنه ما أسمع حينها، ولكنّه بانتزاعه كتابي وضعني على طريق آخر يتّصف بالتحدّي والشهادة على الذات، ومُذّاك بدأت أمسك بطرف خيط جميل، حيث بَوْصَلَتْ عمليةُ الانتزاع تلك وجهةَ الطريق وأرشدتني إلى نقطة البداية، فلله الحمد، وللشيخ وافر الشكر.. وهنا، قلت وأنا الموزّع بين عليّ وشريعته فينا وبين عليّ شريعتي وكتابه علينا؛ ودون أن أصغي لتواليف اللغة بينها أو أجراس البلاغة وأوجه الكناية، فأنا الآن أمام اختبار آخر عنوانه: اِقرأ باسم الشيخ.
بعد أيام من مصادرة كتابي، قمت بزيارة لصديق رويت له ما جرى مع «رجل الدين»، فاستغرب وتعجب، وبادرني من فَوْره بنسخة من الكتاب (المُصادَر) على سبيل الإعارة، وهو يقول غامزاً بتعجّب: «وبما أنّ شريعتي ضال ومنحرف خذ واقرأ له هذا الكتاب أيضاً»، فكان كتاب «الشهادة»، ثم استطرد إنّ الذي قام بتعريبه ونشره هو الإمام السيّد موسى الصدر، عام 1976، وزوّدني بنص الكلمة التي ألقاها الإمام الصدر في بيروت في أربعينية شريعتي، عام 1977، ودّعتُ صديقي بسرعة لأبدأ رحلة ينبوع من غديرين؛ غدير مع علي (ع) وآخر مع الحسين (ع)، وكان الربّان: المُعَلِّم.. علي شريعتي.
شيئاً فشيئاً بدأت أتوغّل في ثنايا شبكة معرفية تؤسّس لوعيٍ متجدّد، ومن ثمَ بدأت أفهم -وأتفهم- لماذا كانت المعلّبات الاتهامية جاهزة وحاضرة، وهي غبّ الطلب، وبدأت أستشعر وأحسّ بأصابع السلطوي المستبد الذي كان يقف خلف تلك التعليبات، وكان قد صدر في بيروت كتاب «النباهة والاستحمار»، الذي أشعل في نفسي ناراً لم تخبُ حتى كتابة هذه السطور، لقد شدّني عنوان الكتاب، فالنباهة تقابل الاستحمار، ومَن لم يكن نبيهاً واعياً متيقظاً فهو من الحمير أو المستحمَرين، الذين يستغلّهم أصحاب السلطة والمال ووعاظ السلاطين (فرعون، قارون، بلعم بن باعوراء)، فالاستحمار هو أن نعمل شيئاً ما بالقول أو الفعل وبصرف النظر عن قيمته، ثم نترك القضية الأهم: قضية إنسانية الإنسان وحقوقه وكرامته وحريته المشروعة وعقله.. إلى هنا أصبح جلياً وساطعاً عندي كيف تُصادر العقول وتحنَّط بقالب «المقدّس المصلحي»، ولا يخفى عليكم أنّ للمقدّس سنامَيْن؛ سناماً «مصلحياً» وسناماً «فعلياً» وهما متقابلان لا يجتمعان ولا يلتقيان لأنّهما يسيران بشكل متوازٍ. وصالت الأيام ثم جالت، ثم حالَت ودخلتُ عالم النشر من خلال قصة -لا يتسع المجال لسردها الآن- لا تقل استفزازاً عن قصتي مع شريعتي لأجد نفسي أمام وعد خفيّ وجميل، وهو أن أنشر مؤلفات الدكتور شريعتي، وأعمل على تعريب ما أمكن منها، بهدف إخراجها للقارئ العربي بحلّة جديدة، وهنا، وجدت نفسي وجهاً لوجه أمام كلمة قالها شريعتي في وصيّته: «آه من قلّة الإمكانات وكثرة المشاغل»، ولكن ولله الحمد أنجزنا حتى الآن 31 كتاباً ترجمة وتحقيقاً ونشراً.. بالإضافة إلى كتابين في طور الصدور هما: «نحن وإقبال» و«مع أعزائنا المخاطبين».
أمّا لماذا شريعتي؟ ببساطة، لأنّه لم يضحِّ بالحقيقة من أجل المصلحة، رغم النفي والسجن الانفرادي لشهور وسنوات مع شتى أنواع التعذيب.. شريعتي الذي عرضت عليه الدنيا وما فيها مقابل جملة واحدة يمدح فيها شاه إيران، فقال كلمته المشهورة: «أأنا أمتدح شخصاً هو أحقر من أن أشتمه..؟!»، فكيف لا تنجذب إلى مفكر صادق مهموم بقضايا أمته رغم أنّه أحياناً قد تختلف معه في بعض رؤاه، لكن صدقه إخلاصه يشفعان حتى تتجاوز.
تعلمت منه الكثير
ما الأثر الذي تركه علي شريعتي في محمد حسين بزي على وجه الخصوص؟
– هو بالأحرى علمني، وأهم ما تعلمته من شريعتي هو الثبات والتحدي لآخر نفس في مقارعة الظلم، أينما كان، من شرق الدنيا إلى غربها.. تعلمت من شريعتي أنّ المثقف الحقيقي يكون رأس حربة للحق في صراعه مع الباطل، ولا يجلس في برج عاجيٍّ للتنظير على غيره. وتعلمت منه أنّ الغربة تخلق المعرفة التي تزيدني قوة كل يوم، وكلّما ازدادت قوتي، ازداد وعيي لذاتي وللعالم. وعلمني أنّ وعيي بالطبيعة يحرّرني من أسر الطبيعة، وكيف أخرج حريتي من مخالبها من خلال وعيي بالتاريخ، وعلمني أن أنتزع كلّ ألوانه وتصاميمه من جوهري لأراه وأعرفه بشكل محايد إلّا عن الحق.. وعلمني أنّ العرفان والدين يحرّرانني من نفسي التي أصبحتُ حاكماً عليها لأنّني أصبحت على قيد العشق.. وأقصى ما علمني شريعتي كان فلسفة أنين علي في آبار نخيل المدينة وحيداً. هذا الأنين الذي مازال يتردّد مع كل حرف من حروف القرآن، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
طفولة غير عادية
ماذا عن طفولة محمد حسين بزي، وعلاقته المبكرة بالكتاب؟
أتينا إلى الشائك في هذه المقابلة الجميلة، الطفولة.. الطفولة التي لم أعرف معناها المتعارف عليه بين الناس. باختصار يا سيدي، طفولتي كانت عبارة عن قصيدة مترامية البحور ومتعددة الإيقاعات، قصيدة مكتوبة بدماء الكثير من الثوار والمصلحين الذين قرأت لهم وعنهم في سن جد مبكرة، من ثورة «أوتوحيكال» السومري في بلاد ما بين النهرين في القرن الـ22 ق.م، وثورة جياع مصر على الفرعون بيبي الثاني في العام 2280 ق.م، ونضال كونفوشيوس حكيم الصين الأعظم في سبيل العدل الاجتماعي في القرن الخامس ق.م، وصولاً لأم الثورات التي فجرها الحسين بن علي في وجه الطاغية يزيد عام 61هـ، متبوعة بثورة حفيده زيد بن علي في وجه فساد هشام بن عبدالملك عام 122هـ، إلى تشي غيفارا في ستينيات القرن الماضي، وروح الله الخميني في أواخر سبعينياته، لكن هذه القصيدة كانت متوحدة مع همّين، هما العدل والمحبة. من هنا، من هكذا طفولة بدأت العلاقة مع الكتاب الذي كنت أقتنيه بدل الألعاب وأنا دون العاشرة من عمري.
قاتلت في معركة حصار بيروت
في سن الثانية عشرة حملت البندقية كإيمان مبكر بالمقاومة.. كيف كان للقلم هو أيضا أن يؤدي هذا الدور؟
القلم (النص المكتوب) في البداية هو الذي أسس لهكذا وعي مبكر كما أسلفت. أيضاً بدأت أكتب، مواضيع الإنشاء وبعض الخواطر المسكونة بالهمّين أعلاه، العدل والمحبة. وكنت قبلها بدأت كتابة الشعر أيضاً.. أما حمل البندقية فكان لأول مرة خلال الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، وتحديداً في معركة حصار بيروت، وكان الدافع الحقيقي أنني اعتبرتها فرصة لامتحان نفسي (بين النظرية والتطبيق)، فأردت أن أكون منسجماً بين ما أقرأ وأكتب وبين ترجمة هذه الأفكار في الدفاع عن الوطن ومواجهة المحتل الصهيوني الذي أصبح في عقر داري، برغم عمري الصغير مقارنة ببقية المقاومين يومها.
مراجعة نقدية لأدب المقاومة
إلى أي حد خلقت المقاومة الإسلامية في لبنان ومشاريع التحرر في الوطن العربي أدبها وثقافتها الخاصة؟
بصراحة وبصدق وبشفافية؛ وكمتابع وناشر أقول: إلى حدٍّ ليس مرضياً حتى الآن، إذا ما قارناه بالإعلام المضاد، حتى على مستوى صناعة الأدب والثقافة، لأنّ الأثمان الجسيمة التي دفعتها المقاومة في لبنان وقوى التحرّر العربي كانت تستحق أن يصار إلى إنشاء دور ثقافة وإعلام متخصصة وبتقنيات تكنولوجية حديثة تحاكي العصر، وتواكب ما توصلت إليه علوم الإعلام وصناعة الرأي العام، لأنّنا قريباً نحتاج أن ننتقل من ثقافة المقاومة إلى ثقافة الانتصار بإذن الله سبحانه وتعالى.. وهنا لا بدّ من إعادة النظر بالكثير من المشاريع الثقافية الراهنة، ومراجعة نقدية خاصة لنتاج أدب المقاومة.
واقعنا العربي مأزوم
كيف تنظرون إلى الواقع العربي الحالي، سياسيا وأدبيا؟
واقعنا العربي مأزوم بلا ريب، مأزوم على كافة المستويات، ليس فقط السياسية والأدبية؛ بل حتى الأخلاقية، مأزوم لأنّنا آثرنا المصلحة الخاصة على العامة، ولأنّنا ضحينا بالدين والقيم من أجل الدنيا إرضاءً للحاكم تارة، ولهوى النفس أخرى.. فعندما رضينا في خضم الحرب العالمية الأولى (1914-1918) بصورة مباشرة أو غير مباشرة بـ»سايكس بيكو» عام 1916، كان أن وقعت الواقعة، وتبعها وعد بلفور المشؤوم عام 1917. وبالمحصلة، سايكس بيكو أضاعت الجغرافيا العربية، لاسيما منطقة الهلال الخصيب، ووعد بلفور أضاع التاريخ العربي ودرّته فلسطين. وفيما العرب بين قبض وبسط أتت الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، وصعود نجم أمريكا بالإجرام الذري بعد أن قتلت مئات الآلاف من اليابانيين خلال دقائق معدودة.. فورثت أمريكا معظم المنطقة عن فرنسا وبريطانيا. وهنا بدأت رحلة الاستعمار المقنّع في إنشاء دول وتقويض أخرى لأمرين لا ثالث لهما: الأطماع في النفط العربي عصب اقتصاد أمريكا والغرب، وحماية الكيان الصهيوني فزاعتهم على رقعة الشطرنج الإمبريالية.. ومنذ العام 1948. والأنظمة تنهب خيرات الأمة وتجهّز الجيوش باسم تحرير فلسطين، فكان أن قمعت شعوبها، أو سعت إلى ترويضهم ثقافياً عبر بث قيم نفعية مضادة تنزعهم عن ذاتهم، وتبرّر لهم حتى الخيانة من ناحية أخلاقية ودينية. مطابخ ومكينات الأنظمة الإعلامية والثقافية اليوم تصنع رموزاً وكتّاباً وأدباء وشعراء ورجال دين وفلاسفة كبارا، يحتلون الشاشات ومنصّات التواصل الاجتماعي، ويعقدون المؤتمرات والندوات، ويحاضرون في المحافل الفكرية والأكاديمية، وكله تحت عنوان «القيم العربية والإسلامية والتجديد الفكري»! بينما هم في الحقيقة جيف منفوخة وطبول فارغة لقنتهم الدولة العميقة من اللسان حلاوته وعلمتهم السحر الرجيم.. أنا لستُ سوداوياً ولكنّها الحقيقة المرّة التي خبرتها وعاينتها من خلال مهنتي كناشر لأكثر من 27 سنة، ومن خلال مسيرتي كشاعر وكاتب.
ولكن أيضاً، هناك المفاخر من الأدباء والشعراء والمثقفين والمفكرين، الذين كانوا ولايزالون في الخندق الأول ورأس حربة في مقاومة كل ما هو استعمار واحتلال وغزو ثقافي، وقد كتبوا بدمائهم قبل حبرهم شهادتهم على عصرهم وأمتهم وأدبهم، والشواهد كثيرة.. وعلى مثل هؤلاء نراهن، ولن نيأس لأنّنا ننظر للمستقبل بعين انتصار الحق على الباطل كما وعدنا به الله سبحانه، ولن يخلف الله وعده.
نخب ثقافية على موائد السلطان
ما الذي يمكن أن تفعله المجتمعات العربية اليوم ضد التطبيع، بعد انتكاسات أو تراجع مقاومتها للإمبريالية والاحتلال؟
الآن يا سيدي المجتمعات العربية أتخموها بأولويات أخرى، بدل أن يفكر الإنسان العربي بطرد المحتل أو الاستعداد لقتاله في حال احتل بلده؛ أصبح يفكر برغيف العيش لأسرته وبحليب أطفاله ودواء والده الشيخ المريض، هذا على مستوى الناس العاديين.. أمّا النخب الثقافية فمعظمها على موائد السلطان تأكل من صاعه وتضرب بسيفه كما تحدثنا قبل قليل، وللأسف هؤلاء الذين يقودون اليوم عملية التطبيع قبل السياسيين في بلدانهم، فهم المنظّرون والمفكرون، وبرامجهم وحوارياتهم على الفضائيات تحرق عين الحاسدين.. ولكن، بين هؤلاء وأولئك هناك الأخيار والصفوة من الناس العاديين ومن النخب، لكن لا صوت لهم سوى في دول قليلة من وطننا العربي والإسلامي، ورهاننا عليهم، لأنّهم الأهِلّة لولادة صحوة عارمة مهما تأخر الزمن، فإن شمس الحق ستشرق متأهبة منتصرة.
مأساة العصر
من خلال متابعتكم لمجريات الحرب والعدوان على اليمن.. كيف تنظرون إلى ما يبديه اليمنيون فيها؟ وأين تكمن برأيكم مهمة الأدب إزاء هذا الصمود الأسطوري؟
إنّها مأساة العصر الإنسانية رغم أسطورتها في الصمود، وإنّه العار العربي بل العالمي على جبين البشرية كأداة، وإنّه التوحّش الأمريكي الأعمى الذي لا نظير له حتى في أفلام الخيال العلمي كمخطط ومستفيد.. إنّها أكبر جريمة مستمرة بشكل يومي في تاريخنا المعاصر، ماذا سيقول هؤلاء للقادم من الأجيال، لأبنائهم، لأحفادهم؟ هل سيقولون قتلنا أهل اليمن لأنّهم تنازلوا عن فلسطين مثلاً؟ أو دمرنا اليمن لأنّ أهلها عملاء للصهاينة؟ أم لأنّهم مرغوا أنف العروبة؟! أي حكاية سيحكون للناس وللتاريخ ولله؟!
فعلاً أنا حزين على اليمن، لكنّني أيضاً حزين عليهم عندما يقفون أمام المرآة في الدنيا ماذا سيقولون لوجوههم؟ لجلدهم؟ وعن ماذا وماذا وماذا سيجيبون في قبورهم؟!
أمّا عن مهمة الأدب في ظل ما يجري في اليمن، لن أكرّر ما قلته آنفاً، ولكنّني أضيف: إنّ مأساة العصر هذه، وبرغم صمود ومقاومة اليمنيين، كانت أكبر امتحان لكل مثقفي وأدباء الوطن العربي، من ناصر الحق معروف، ومن برّر للعدوان كالصنف الذي تحدثت عنه صنيعة مطابخ ومكينات الأنظمة أيضاً معروف، لكن الذي يقتلني هو الصامت، وهو على نوعين، إمّا جبان أخرسته مصالحه، وإمّا منافق ينتظر على رأس الجبل حتى يتبيّن له من المنتصر فيلحق بركابه ممتشقاً قلمه الذي يجري أسرع من لسانه ولعابه، وكلا النوعين يعرف مع من الحق تماماً.. ولكنّها الدنيا يا هارون.
إنّ الأدب كما التاريخ يجب أن ينقل الحقائق، لكن الكثير من النصوص الأدبية تخلدت أكثر من التاريخ المحض بفعل تأثيرها الجمالي على المتلقي. والكثير من التاريخ كتب بفنون أدبية مازالت خالدة رغم تعاقب العصور حتى أصبحت من أيقونات الأمم، مثلاً إلياذة هوميروس التي كتبت في القرن الثامن أو التاسع قبل الميلاد، هذه الملحمة الشعرية التي تحكي قصة حرب طروادة، تعتبر مع الأوديسا أهم ملحمة شعرية في التراث الإنساني. نحتاج أدباً كهذا، ولو بحده الأدنى. نحتاج أن يكتب الطور الأخير من ثورة ومقاومة وصمود الشعب اليمني العزيز بنصوص يخلدها التاريخ، والتي بدورها تخلد التاريخ.
هل من كلمة أخيرة تودون قولها؟
إلهي، لا تنعم علي بفضائل لا تنفع الناس، ولا تبتلني بزخرفة المعرفة المتوحشة كي لا تسلبني الحس الرفيع.. أمّا قبل؛ كان اليمن فكانت العرب، وأمّا بعد؛ سيبقى اليمن ليعيد نهضة العرب.