حكيم العرب يرحل وفلسطين في قلبه
الدكتور محمد حسين بزي/ شاعر و روائي و كاتب لبناني
رحل الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح. رحل ولم يرحل..!
رحل صاحب الشخصية الاستثنائية والابتسامة المعهودة بعد أن أدّى كلّ أماناته بدقّة، ومحبة لا تخلو من حزم، وسلام لا يخلو من شجاعة. منذ أن تسلّم الشيخ صباح وزارة الخارجية الكويتية عام 1963 وحتى عام 1991 كان محط أنظار نظرائه العرب والأجانب، من حيث حكمته وحنكته وتواضعه، ولم يكن المجلس الذي يحضره الشيخ صباح يخلو من نكتة حاضرة وابتسامة لا تفارق محياه، كذلك يُشْهد للشيخ صباح أنّه كان رأس حربة في الدفاع عن الحقوق والقضايا العربية، خاصة القضية الفلسطينية، ولم يساوم يوماً على حقوق الشعب الفلسطيني، وما برح يدافع ويقول إنّ القدس هي العاصمة الأبدية لفلسطين، حتى أثناء المد والجزر الذي شهدته العلاقات الكويتية الفلسطينية خلال احتلال صدام للكويت وبعده. الشيخ صباح الذي اتسمت شخصيته الدبلوماسية بسرعة البديهة وحُسْن التخلّص طيلة أربعين سنة تقريباً قضاها على رأس الدبلوماسية الكويتية؛ لم يمنعه ذلك أن يكون مهموماً بالهم الثقافي العربي، خاصة بعد أن عيّن كأول وزير للإرشاد والأنباء (الإعلام حالياً) في الكويت عام 1962. وأسهم قبلها في إطلاق مجلة العربي المرموقة عام 1958.
انصاف المرأة الكويتية
واعتبرها هدية الكويت للعالم العربي، وفعلاً كانت ولا تزال كذلك. ولم يرحل الشيح صباح الأحمد لأنّه منذ أن تسلم الحكم وما أسّس له وما أشاده فيما بعد من مؤسسات حكومية فاعلة، وما دعمه وأشرف عليه من تشريع قوانين تراعي أمن ورفاه وحريات شعبه، واحترام وتقدير أية معارضة بنّاءة، ومحاربته ومقته لأي اصطفاف مذهبي أو طائفي، وإطلاق حرية الإعلام والصحافة، والأهم كان حصول المرأة الكويتية على كل حقوقها السياسية، بما في ذلك عضوية كلٍّ من مجلسي الوزراء والأمة، وحتى دخولها إلى السلك العسكري؛ كلّ ذلك كان كفيلاً بأن يضع الكويت في مصاف الدول المشهود لها بالديموقراطية واحترام حقوق الإنسان على المستوى الدولي، لهذا وغيره لم يرحل الشيخ صباح، لأنّ ذكره عاطر مع كل ممارسة سياسية شهدتها وستشهدها البلاد. ولا يخفى أنّ الشيخ صباح كان يمشي بين حقول من الألغام الإقليمية والدولية، وهو الضليع بخفاياها كما أسلفنا، إلّا أنّه بقي وسطياً في معظم مسيرته، وحمامة سلام في محاولاته حتى آخر نفس في رأب صدع البيت الخليجي، والبيت العربي عامة، ومحاولاته الدؤوبة لوقف الحرب في اليمن من خلال استضافة الكويت ورعايتها لأكثر من حوار بين الأطراف اليمنية لم تزل في الذاكرة القريبة.
صاحب كاريزما
لم يتوانَ الشيخ صباح يوماً عن زرع الأمل أينما حلّ، ومهما كانت الصعاب، فقد كان للكاريزما التي يتمتع بها كلّ الثقة بإضفاء الطمأنينة بين الأطراف المتخاصمين، بدءًا من الأزمة السورية، والاضطرابات التي شهدتها مصر بعد سقوط حكم مبارك، وما جرى ويجري في السودان، وليبيا والعراق، حتى بين الهند وباكستان، فرغم كلّ تلك الاشتباكات والتناقضات فإنّك لن تجد خصماً للشيخ صباح، بل كان المرحب به من الجميع، وهذا إن دل، فإنّه يدل على المكانة التي احتلها في القلوب قبل العقول التي قد تختلف معه أحياناً.
دعم شعبي لبنان وفلسطين
أمّا عن جهوده الإنسانية من دعم التعليم والصحة والتنمية المستدامة ومشاريع الأمم المتحدة ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطنيين (الأونروا)، وإعادة إعمار ما هدمته الحروب على مستوى العالم؛ فحدّث ولا حرج، حتى أطلق عليه لقب أمير الإنسانية عن استحقاق وجدارة.
وانا كلبناني، وكجنوبي بالتحديد، ما زلت، وسأبقى أحفظ للراحل الكبير مواقفه الإنسانية النبيلة في دعم الشعب اللبناني، وإيقاف الحرب الأهلية عام 1990 ، وإعادة إعمار جنوب لبنان جراء العدوان الإسرائيلي 2006.
ولم يكن هذا آخر ما قدمه الأمير الراحل للبنان، بل استتبعه بدعم وتمويل المشاريع الإنمائية، وترميم وإشادة الكثير من الصروح التربوية على كل الأراضي اللبنانية، والتي بعضها أصبح يحمل اسم الكويت كعرفانٍ بالجميل ومحبة لأميرها. ارقد بسلام يا أبا ناصر، فإنّنا نحتسبك في الخالدين الذين حفروا أسماءهم بالعمل الصالح في قلوب الناس في الدنيا، ونحتسبك عند رب كريم رحيم لا يضيّع أجر المحسنين الذين قضوا أعمارهم في خدمة العباد والبلاد.
المصدر: جريدة القبس الكويتية /عدد 5 أيلول 2020.