رغم الموت.. بيروت لن تموت!
د. محمد حسين بزي/ شاعر وأديب وكاتب ومحقق لبناني
لم يشفع لبيروت إرثها الثقافي ولا موقعها الحضاري المتميّز والفريد في تعايش الأديان والطوائف والثقافات على البحر المتوسط.. ولم يشفع لها تاريخها الممتد منذ خمسة آلاف عاماً من العصور الفينيقية والهيلينية والرومانية والعربية وما تحمله من آثار عظيمة من تلك العصور.. لم يشفع لبيروت جمالها المتفرّد ولا نضالها القومي ولا حرياتها المشهودة.. لم يشفع لها سوى البحر الذي امتص أكثر من 60% من عصف الانفجار الذي لم يشهد لبنان أو المنطقة أو حتى العالم مثيلاً له من حيث الحجم الكارثي وهذه القوة العنيفة التي قدرت بـ 4.5 درجات على مقياس ريختر حاصداً آلاف الضحايا ما بين شهداء وجرحى ومفقودين، ومخلفاً دماراً مهولاً على مساحة قطرها 5 كلم، حتى وصل عصفه إلى جزيرة قبرص، مدمراً بشكل كلي مرفأ بيروت رئة لبنان الاقتصادية، والذي يغطي 85% من الاستيراد والتصدير الوطني، وقد قدرت الخسائر الأولية جراء الانفجار بحوالي خمسة مليارات دولار.
الآن نحن أمام سؤالين:
الأول: لماذا أُفرغت، ومن ثم خُزنت هذه المواد؛ والتي تزن 2750 طناً من ” نترات الأمونيوم NH₄NO₃” داخل العنبر رقم 12 بالقرب من حاويات المفرقعات والمواد السريعة الاشتعال منذ العام 2014 -عهد الرئيس ميشال سليمان وحكومة الرئيس تمام سلام-، وذلك بعد أن قامت إدارة المرفأ بإفراغها من الباخرة “RHOSUS” بناء على قرار قضائي صادر عن قاضي العجلة جاد المعلوف بتاريخ ٢٠١٤/٦/٢٧ (بعد جنوحها) بناء على طلب محامي الدولة اللبنانية ومديرية النقل البحري بحجة خطرها على البيئة، وذلك خلافاً لقرار القاضي المعلوف الذي لم ينص على تفريغها في المرفأ، بل في مكان مناسب (آمن)، وصوّب مطالب الدولة من خلال الإشارة إلى الخطورة الجسيمة لحمولة السفينة. وقد ذكرت بعض المصادر حينها أن هذه الشحنة كانت مرسلة للمسلحين في سوريا، مما يفضي إلى أسئلة أخرى حول الحماية السياسية التي توفرت لهذه الشحنة المصادرة لتبقى كل هذه الفترة دون التصرف بها بشكل آمن أو تسليمها للجيش اللبناني أو حتى بيعها بالمزاد العلني -بإشراف الحكومة- للمهتمين من أصحاب المقالع والكسارات حيث تستخدم في تفجير الصخور ؟.في حين لم تبادر إدارة الجمارك إلى ممارسة مهامها المنصوص عنها في قانون الجمارك والتي تمنع ادخال أية مواد خطرة أو متفجرة إلى المستودع العمومي حسب نص المادة 205..؟!، خاصة وأن تقارير جهاز أمن الدولة المتكررة منذ العام ٢٠١٤ وحتى قبل أسابيع وهي تحذر من عدم صلاحية مكان التخزين، وخطورة هذه المواد على المرفأ؛ بل وعلى بيروت بأكملها..!
الثاني: لماذا وقع الانفجار قبل ثلاثة أيام من صدور الحكم في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري (قبل تأجيله لـ 18/8/2020)؛ وفي ظل تصاعد التوتر على الجبهتين اللبنانية والسورية مع العدو الإسرائيلي؟ أيضاً، ما قاله الرئيس الأمريكي دونلد ترامب من أن الانفجار قد يكون ناتجاً عن هجوم بقنبلة استهدفت حاويات المواد التفجيرية..! ومع ترجيحي لهذه الفرضية، والتي حتماً سيكون لأمريكا يداً _ربما إسرائيلية_ فيها من قريب أو بعيد لخلط الأوراق في الداخل اللبناني ولإطباق الحصار الاقتصادي على لبنان الذي قد يغنيها عن حرب متوقعة على الجبهة الإسرائيلية، لكن هذا بدوره يفضي إلى أسئلة كبيرة منها:
وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار خطة بومبيو لتجويع لبنان، فهل المطلوب تحويل لبنان إلى دولة فاشلة بكل معنى الكلمة مع حكومة حسان دياب المتهمة أمريكياً بـ “حكومة حزب الله” بعد تدمير أكبر المنافذ التجارية للدولة اللبنانية، والذي يحوي الاحتياط الاستراتيجي من القمح المخزن في إهراءات مرفأ بيروت التي انجزت عام 1970 في عهد الرئيس شارل حلو وتؤمن حوالي 40% من مجموع القمح المستورد؟.. وهل المطلوب أثماناً سياسية مقابل إعادة بناء المرفأ ومحيطه؟ وهذا ما بدأ يطفو على السطح من خلال أكثر من دبلوماسي عربي وأجنبي.
في المحصلة، وبعد هذه الكارثة، والأزمة الاقتصادية والمالية والمعيشية جراء الحصار وانهيار قيمة الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي وازدياد تفشي جائحة كورونا وعدم قدرة النظام الصحي اللبناني على استيعاب المرضى، واستقالة حكومة دياب الذي اعتبر أن منظومة الفساد أكبر من الدولة، وذلك بعد زيارة الرئيس الفرنسي ماكرون؛ وإطلاق مبادرته التي تحاول بشكل واضح الإمساك باللحظة التاريخية لتغيير سياسي طالما تمنّاه الغرب في الآونة الأخيرة، وصولاً إلى صدور حكم المحكمة الدولية (المعروف سلفاً) في قضية اغتيال الحريري في الثامن عشر من الشهر الجاري فإن لبنان سيكون على صفيح أكثر من ساخن، يغذيه انقسام سياسي حاد في الإقليم، وفي خضم اضطراب اقتصادي ومجتمعي لبنانياً، وربما اضطراب أمني _لا سمح الله_ لم يشهده لبنان منذ الحرب الأهلية (1975-1990).
كل ما تقدّم يدعونا إلى القول: إن هذه الكارثة _بتداعياتها السياسية والاقتصادية _سواء كانت جراء عمل تخريبي مقصود أو نتيجة الاهمال والفساد المستشري في الدولة اللبنانية منذ عقود، فإن لبنان بعد انفجار مرفأ بيروت؛ ثاني أكبر تفجير بعد هيروشيما، لن يكون كما قبله.. لكن وبأي حال بيروت لن تموت.