تواصلٌ أم تباعدٌ وانفصام… اللهم أسألك أن لا تجعلني واحدًا من هؤلاء
تأملات في واقع الحياة
الشيخ عبد القادر فاكهاني/ مسؤول اعلام “المشاريع”
منذ سنواتٍ طويلة أتتبعُ تطوراتِ وتأثيراتِ ما أُسمي وسائلَ التواصل الاجتماعي، أقلبُ صفحاتِها وأحاولُ أن أسبُرَ أغوارَها، أنظرُ وأتأمل وأصغي إلى ما يحدّثني به بعضُ الإخوةِ والأصدقاء وما يرسلونه لي من أفكارٍ وملاحظاتٍ ولفتِ انتباه إلى ما يجري في ملاعب هذه الوسائل… ما يجري فيها في الكواليس والعلن من مآسٍ واختلافاتٍ وشتائمَ وتهجماتٍ بلا طائل واتهاماتٍ بحق وبلا حق… كلٌّ يغني على ليلاه… وقد كتبتُ مراتٍ عديدةً بعضَ الأفكارِ والنصائحِ لنفسي ولغيري منبِّهًا من سلبياتِ هذه الوسائل التي يمكننا أن نسميَها بكل راحةِ ضميرٍ وسائل للتنافر والتباعد الاجتماعي وللانفصام في كثير من الأحايين… وأكثر من ذلك أقولُ إنها باتت عند البعض منابرَ لمحاولاتِ فكِ العُقَدِ النفسية فإذ بالعُقَدِ تزدادُ وتتسعُ وبات حلُّها عسيرًا على المحللين النفسيين والخبراء الاجتماعيين!!!
ربما انزعج البعضُ آنذاك من صراحتي مع أن مرادي كان لفتَ الانتباه وقرعَ جرس الخطر، والتنبيهَ من واقعٍ كان وما زال آخذًا بالاستفحالِ، والحثَّ على التفكيرِ والتأملِ عسى أن يستيقظ الغافلون… لقد قلتُ فيما قلتُه إن كثيرين أصبحوا أسرى الفيسبوك والواتساب وغيرِهما من التطبيقات بحيث غاب من حياتِهم العمليةِ المفهومُ الأصليُّ للتواصل الاجتماعي الذي يعني فيما يعنيه صلةَ الأرحام وزيارةَ المرضى ومواساةَ الناس في أحزانهم وتفقدَ أحوال الفقراء والأيتام والتعاونَ على الخير والتناهي عن المنكر… كثيرون أصبحت هذه الوسائلُ مرجعَهم وملاذَهم… ولا أتحدث بصيغة التعميم والشمولية… من يبحثُ عن التسليةِ بالناس والغيبةِ والنميمةِ وبثِّ الأكاذيب والألاعيب ونشرِ الإشاعات الخبيثة وزرعِ بذور الفتن يلجأ إلى هذه التطبيقات… من يبحثُ عن القيلِ والقال وإيقاعِ الخلافات بين الأُسر والتحريضِ بين الأزواج والإخوة والجيران وتقليبِ المواجع وتحريكِ الغرائز والنعرات بلا طائل يُغرِقُ نفسَه في هذه التطبيقات… فيصبحُ غريقَها كما جعل غيرَه غرقى ألاعيبِه الدنيئة!!!
وأشرتُ كذلك إلى أن البعض يريد أن يوهم الناسَ أنه بطلٌ مِقدامٌ لا يُشقُّ له غُبار فيستعرضُ عضلاتِه الكلاميةَ بطرحِ شعاراتٍ قرأها ذاتَ يوم أو رآها في منامٍ، والدعوةِ إلى المظاهرات والاحتجاجات، ومهاجمةِ دول وجماعات وأشخاص… ولا يتوانى عن الدعوة إلى العصيان والانقلاب والثورة واتهامِ الناسِ بالتقصير والكسل والخنوع والخضوع… فيما هو قاعدٌ وراء مكتبِه أو في منزله ولا ينسى تشغيلَ جهازِ التكييف والتبريد والاستلقاءَ على سريره المريح وارتشافَ قهوةِ البن أو “النسكافيه” أو الزنجبيل… ودون أن ينسى الأركيلة (الشيشه) وشيئًا من المكسّرات (المخلوطة) والبقلاوة وحلاوة الجبن!!!
حتى وصل الأمرُ بالبعضِ إلى إهمال الواجبات كنحو أداءِ الصلاةِ المفروضة وتعلّمِ علمِ الدين الواجبِ معرفتُه… وإلى نسيانِ الطريق نحو بيوتِ الله… ونسيانِ وجوهِ أرحامِه وجيرانه وأصدقائه… ولكنه لم ينس أن يُدخِلَ نفسَه في صراعاتِ الأمم وخلافاتِ الشعوب ومتاهاتِ “الثورات”… وهو جالس وراء شاشة الكومبيوتر لا يُقدّمُ شيئًا!!!
البعضُ ينشرُ عبر الإنترنت “الغسيلَ الوسخ” ومشاكلَه مع طليقتِه أو خطيبتِه السابقة أو صديقِه القديم أو جيرانِه أو أشخاصٍ كانوا مثلًا عاملين في صفحاتِه ومجموعاتِه فتركوه، أو أشخاصٍ بَلَغَه عنهم كلامُ سوءٍ ولم يبذلْ جهدًا ليتيقن من صحته… وفي هذا المسار من الضياع لا يتورعُ عن توزيعِ الشتائمِ وأقذَعِ النعوت وكَيلِ الاتهاماتِ يمنة ويسرة!!!
البعضُ وصل التوهمُ به إلى درجة الظن أنه يديرُ شعوبًا وقبائلَ عبر الإنترنت… والبعضُ أصبح يظن نفسَه زعيمًا أو شيخًا أو مرشدًا للأجيال عبر الإنترنت… والبعضُ يجعلُ بعضَ أهلِ الفتنة المشوِّشين في موقع الشهرة برده عليهم فيما يكونُ علاجُهم أحيانًا الإهمال…. والبعضُ مستعدٌ لإطلاقِ الانتقادات الصارخة في مواضيع سمعها عَرَضًا ولا يعرفُ حقيقتَها ولم يبذلْ أيَّ جهدٍ لمعرفتها كما هي، ومستعدٌ لتوزيعِ المواقف حول النزاعاتِ الكبرى في الدنيا وهو لا يدري ما يجري في الغرفة المجاورة له، ومن يسرقُه في متجره، ولا يحسنُ تنظيمَ حياته ولا تربيةَ أولاده!!!
وكثيرٌ من المتسرعين الساعين وراء ما يُسمى السبقَ الإعلامي أو الشهرة ولفت الأنظار يُقدِمُون على إصدارِ الآراء الغريبة العجيبة ونشرِ الأخبار الملفّقة التي تخربُ الديارَ العامرة دون أن يهتز لهم جفن… وكيف يهتز هذا الجفنُ أصلًا ما دام صاحبُه يظن أنه صاحبُ الفهم العميق وأنه الباحثُ الاستراتيجي والعسكري والسياسي والخبيرُ الاقتصادي والمالي وانه أعلم من الأطباء والمهندسين والمحامين في مجالاتهم… دون أن ننسى طبَ الأعشاب والطبَ البديل والعلاجَ الفيزيائي والإلمامَ بالزراعة والصناعة!!!
ما أكثرَ أصحابَ الأوهامِ وما أكثرَ من يظنُّ السرابَ ماءً… وما أكثرَ الجهلةَ والمتبجحين… وما أكثرَ المغرورين والمتكبرين…
اللهم إنني أسألك أن لا تجعلني واحدًا من هؤلاء.