العلامة الهرري: مئةُ عامٍ في ميدانِ الدعوةِ الإسلاميةِ
الشيخ الدكتور أسامة شعبان
نُبذة عن الشيخ عبد الله الهرري الحبشي رحمه الله (1910_2008م)
مئةُ عامٍ في ميدانِ الدعوةِ الإسلاميةِ
إلى بني شيبةَ القُرشيّينَ يعودُ نسَبُه، وفي مدينةِ هرَرَ مولدُهُ ونشْأتُه، وعلى أيدي أهلِ العِلْمِ والمعرفةِ تفتَّحتْ براعمُهُ وتَنوَّرَ قلْبُه، حتى حَفِظَ كتابَ اللهِ وهو في مُقْتَبلِ العُمُرِ، وأُجِيزَ بالفتوى وروايةِ الحديثِ وهوَ دُونَ الثَّامنةَ عَشْرةَ.
جابَ السُّهولَ والوِهادَ والهِضابَ، يَطْلُبُ العِلْمَ مِنْ أهْلِهِ لله، توحيدًا وفِقهًا وتفسيرًا وتجويدًا ونحوًا ولغةً، حتى غدا مُحدِّثًا حافظًا مُفسِّرًا لُغويًّا مُؤرِّخًا، علَمًا ومَعْلَمًا، عالمًا عاملًا ومُعلِّمًا، يُشارُ إليهِ بالبَنان، تَقْصِدُهُ منَ الأقاصي الرُّكْبَان، ويَتنافسُ على رُكْبَتَيهِ العُلماءُ مِنْ شتَّى البُلدان.
ومِنْ هَررَ إلى مكةَ المكرَّمةِ إلى المدينةِ المنوَّرةِ إلى بيتِ المقدسِ إلى دمشقَ ثمَّ إلى بيروتَ، حكايةُ عِلْمٍ وخيرٍ، وتاريخُ دعْوةٍ، بهمّةٍ وحكمةٍ، تُروى للأجيالِ بلِسانِ الصِّدْقِ، عنْ عالِمٍ عاملٍ تقيٍّ نقيٍّ وَرِعٍ زاهدٍ عابدٍ مُتواضعٍ، كالغيثِ أيْنَما حَلَّ نَفَعَ.
بيروتُ مدينةُ الإمامِ الأوزاعيِّ والشيخِ مصطفى نجا والشيخِ عبدِ الباسطِ الفاخوريِ والشيخِ محمدٍ الحوتِ (وأمثالِهِمْ) رحمهُم اللهُ، بيروتُ انضمَّ إلى سِلسلتِها الذَّهبيَّةِ حَبْرُ المَعَارِفِ، والبَحْرُ العَارِفُ، الشيخُ عبدُ اللهِ الهَرريُّ الحبشيُّ رحمهُ اللهُ تعالى.
الانطلاقة من بيروت
مِنْ بيروتَ هذهِ انطلقتْ جمعيةُ المشاريعِ الخيريةِ الإسلاميةِ، فكانتْ نُقطةَ الضوءِ التي يُنسَجُ منها بريقُ شمسِ الهدايةِ، وعُنوانَ الخيرِ في كتابِ الأمْجادِ، ورحمةً للناس في تواضُعٍ وخُلُقٍ.. كقَطْرةِ النَّدى على أكْمَامِ الزَّهْرِ المُتَوَرِّدِ، وكنَسْمَةِ الفَجْرِ التي تُلامِسُ صفحةَ الماءِ، ورَمْزَ الوَسَطيَّةِ والاعتدالِ، ومَعْدِنَ الرِّجالِ الأبطالِ.
إنها جمعيةٌ أشرقتْ في زمَنٍ خيَّمتْ فيهِ الظُّلماتُ، هيَ بحقٍّ دُرَّةُ جُهُودِ الشيخِ عبدِ اللهِ الحبشيِّ وتربيتِهِ وتوجيهاتِهِ، ترأَّسَها سماحةُ الشيخِ الشهيدِ نزار حلبي رحمهُ اللهُ، الذي اغتالتْهُ يدُ التطرفِ والإرهابِ، ليُكملَ المَسيرةَ مِنْ بَعْدِهِ، بعَزْمٍ وحزمٍ، سماحةُ الشيخِ الدكتور حسام قراقيرة حفظهُ اللهُ، حيثُ استمرتِ الإنجازاتُ، وتوسَّعت المؤسَّساتُ، وازدادتْ ثقةُ الناسِ بمَضْمونِ أهدافِ هذهِ الجمعيةِ الإسلاميةِ الوطنيةِ المعتدلةِ، فانتشرَتْ فُرُوعُها في الأرجاءِ كدَوائرِ الماءِ، تُرشدُ العبادَ، وتُحذِّرُ منَ الفسادِ، جامعاتٍ ومدارسَ ومساجدَ، ومراكزَ علميةً ومعاهدَ.
داعية الى الحق
إنَّ الشيخَ الهرريَّ أشعريُّ زمانِه، وشافعيُّ أوانِه، رفاعيُّ الطريقةِ، وقادريٌّ على الحقيقةِ، مدرستُه علّمتِ المذاهبَ المعتبرةَ: الشافعيَّ والحنفيَّ والمالكيَّ والحنبليَّ؛ لم يأتِ بجديدٍ يخالفُ الأصولَ، ولا أفكارٍ مستحدثَةٍ تمُجُّها العقولُ، فهِمَ حقيقةَ الدِّينِ، وعرَفَ واقعَ الحياةِ، فكان بحقٍّ داعيةً إلى الحقِّ، زاهدًا بما في أيدي الخلْقِ، فوضع اللهُ له المحبةَ في قلوبِ الصالحينَ. وكلُّ هذا الإقبالِ على صُنُوفِ العلمِ وفنونِه يُصاحبُه دقةٌ في ضبطِه، وهمَّةٌ في نشرِه، غيرَ هيّابٍ بالمَرَّةِ لِمَنْ يُخالفُ شرعَ اللهِ تعالى، من خاصّةٍ وعامّةٍ، فكانَ أجرأَ الدعاةِ إلى اللهِ في عصرِه، فهابَه أهلُ البِدَعِ، واطمأنََّ إليه أهلُ الخيرِ.
مئةُ عامٍ في ميدانِ الدعوةِ الإسلاميةِ؛ تأليفًا وتدريسًا وتوجيهًا وتذكيًرا ووعظًا وإرشادًا، لتوافيَهُ المنيّةُ في الثاني من رمضانَ عام 1429هـ رحمه الله.
وقد خلّفَ ــ جزاه اللهُ خيرًا ــ بعدَه تلامذةً وأحبابًا نشروا الخيرَ في كلِّ وادٍ ونادٍ، على منهاجِ الرشادِ والسدادِ، لا يَحيدُونَ قِيدَ أَنمُلةٍ، وهذه سُنةُ اللهِ، يموتُ العالِمُ ويبقى العلمُ في أتباعِه.
كم مات قومٌ وما ماتت مكارمُهُمْ
وعاش قومٌ وهُمْ في الناسِ أمواتُ
الشيخ الدكتور أسامة شعبان/ دكتور في اللغة العربية وفي الشريعة واستاذ جامعي في الجامعة اللبنانية واللبنانية الدولية.