لا نريدُه أن يكونَ كمثلِ مكبّاتِ نفاياتِنا
تأملات في واقع الحياة
الشيخ عبد القادر فاكهاني/ مسؤول اعلام “المشاريع”
أصبحت السياسةُ بمفهومِها الرائجِ حاليًا للأسف الشديد أداةً من أدواتِ الاستعلاءِ على الناس والتلاعبِ والتكاذبِ ونهبِ خيرات الشعوب واغتصابِ الحقوق، وهذا المفهومُ يرتكزُ فيما يرتكزُ عليه على أن الشعب هو الذي يعملُ في خدمة السياسي ومسخّرٌ لتحقيق أحلامه… يصفّقُ له ويطبّلُ ويزمّرُ ويجعلُه توهمًا حاميَ الحمى والملجأَ الآمن… وأثناءَ حفلاتِ التصفيقِ والتطبيل والتزمير هذه يمدُّ السياسيُّ يدَه إلى خزينة الدولة وجيوب الناس فلا يُبقي فيها ولا يذر، كما يمد يدَه لضرب الناسِ بعضِهم ببعض تحت ذرائعَ واهية!!!…
أحاولُ أن لا أكتبَ في السياسة ليس خوفًا من مزوّري مفهومِها أو من المتربعين تعسفًا على عرشها… ولكنَّ أحدَنا يظنُّ أحيانا أنه قد سَبَر أغوارَ قضيةٍ سياسية ليكتشفَ في اليوم التالي أنه لم يكتشفْ شيئًا … تظن أن فلانًا السياسي هو من ألدِّ أعداءِ فلان الآخر من السياسيين لتكتشفَ لاحقًا أنه من أوفى أصدقائِه وأعزِّ أحبابِه وشريكٌ له في جمع الثروات من أموال الناس ظلمًا!!!…
في السياسةِ هذه الأيام تُبنى التحالفاتُ على المستوى الدولي في الغالب على معاييرِ المآربِ السياسية والاقتصادية التي تحرّكُها وتقلّبُها أحقادٌ تاريخيةٌ وغرائزُ آنيةٌ وانتخاباتٌ منتظرةٌ ومطابخُ إعلاميةٌ، والثوبُ هو استعطافُ الشعوبِ وإغراؤهم بمظاهرِ القوة والهيمنة!!!… تحالفاتٌ تخضعُ لأوامرِ شركاتِ النفط العملاقة ومصانعِ الأسلحة الضخمة ومراكزِ الأبحاث الصناعية والمخبرية الكبرى وربما كذلك مافيات المخدرات والإتجار بالبشر!!!… تحالفاتٌ ليس فيها معاييرُ الأخلاقِ والحقوقِ فهذه كلماتٌ تُستعملُ عندهم للاستهلاكِ الإعلامي وخداعِ الرأي العام و”الضحكِ على الدقون” وفلسطينُ شاهدٌ على ذلك منذ عشرات السنين!!!…
أما السياسةُ في لبنان التي تشبِهُ سياساتِ الخارج إلى حد كبير فيمكنُنا أن نضيفَ إليها أمورًا أصبحت علاماتٍ فارقةً لبنانية، ولا أقول إنها وكالاتٌ حصرية فهي أمور موجودة في دول أخرى، غير أنها في لبنان أوصلتِ البلدَ إلى الانهيار…
لقد بلغت معدلاتُ الفسادِ المالي والإداري والهدرِ وتبخّرِ المالِ العام في لبنان مستوى يؤهّلُ لبنانَ للدخول في كتاب “غينيس” واحتلالِ المستويات الدنيا!!!… وبينما كان البعض مشغولا بالحديث عن المطبخِ اللبناني وصحنِ الحمص بطحينة والفلافلِ وأطولِ منقوشة وأطولِ علَمٍ كان بعضُ السياسيين ومن يدورُ في فلكهم يُعِدّون في مطابِخهم طبخةَ أطولِ مجازرَ مالية أوصلت الشعبَ اللبناني لينزلَ في 17 تشرين الأول 2019 إلى الشارع… وحدث ما حدث بعد ذلك!!!
يكادُ لبنانُ أن يكونَ من أغرب بلدان العالم في عدة أمور … من الطبيعي والمعتاد أن يكون ابنُ الغني غنيًا إذا ورِثَ مالَ أبيه…. ولكن أن يكونَ ابنُ الوزير وزيرًا أي كأنه وزير، وابنُ النائب نائبًا أي كأنه نائب، وابنُ المدير مديرًا وهكذا دواليك فيتحكمون بعبادِ الله ودوائرِ الدولة كما يحلو لهم فهذا أمر غريب!!!… والأغربُ أن يقعَ الأمرُ نفسُه مع المرافق والسائق ومع ابن العم وابن العشيرة وابن المدينة وابن الضيعة!!!
في بلاد العالم يتجول رئيسُ الوزراء والوزراءُ والنوابُ في “السوبرماركت” كما يفعلُ المواطن… وفي لبنان تتجولُ إداراتُ الدولةِ لخدمةِ الزعيمِ والزوجة والأبناء وحتى المرافقين!!!… في لبنان يحب الكثيرون المظاهرَ والألقاب… يذوبون عشقًا بها وتعلقًا… تكادُ أن تقتلَهم هذه المظاهرُ والألقابُ كما نكادُ نحنُ أن نموتَ من التجبر والتكبر والاستعلاء وروائح الفساد… أما المواطن فبلا ألقاب… يقف داخلَ المصارفِ منتظرًا شيئًا من “الحنان” المصرفي الذي ينبثقُ عنه مائة دولار تُصرَفُ غصبًا عنه إلى العملة الوطنية التي تراجعتْ وتآكلتْ وأكلتْ جيوبَ الناس!!!…
أرشِدوني إلى مواطن عادي التقى ذاتَ يومٍ برئيسٍ أو وزير أو نائب أو مسؤول رفيع في صف انتظار في بنك أو شركة… إن حدث هذا فهو قليل… ولكن الذي يحدثُ كثيرًا أن الشعبَ يُسحقُ كلَّ يوم ورغم ذلك ما زال متعلقًا بالوطن… كثيرٌ منا لا يريدون تركَ الوطن ولا يريدون الهجرة… نحب لبنانَ رغم المآسي… ولكننا نريدُ أن يُحاسَبَ السياسيون والمسؤولون الفاسدون وينزلوا عن ظهورنا ويرحلوا عنا…
نريدُ أن نبقى في لبنان على أن يبقى لبنان… نريدُ وطنًا لا يأكلُ فيه الفاسدُ أموالَنا… ولا يأكلُ القويُّ الضعيف… ولا تسودُ قوانينُ الغاب…
نريدُ وطنًا بلا فيروس كورونا… ولكننا نريدُه كذلك بلا فيروساتِ الفساد والمفسدين الذين أفرغوا جيوبَ الفقراء وأنهكوا الطبقةَ المتوسطةَ وجعلوها بالكاد تجدُ كفافَ يومِها…
نريدُ أن يكون العملُ السياسي في لبنانَ مجالًا رحبًا للصادقين والمخلصين ونظيفي الكف والقلب…
هكذا نريدُ العملَ السياسي وهكذا نريدُ لبنانَ نظيفًا ولا نريدُه كمثلِ مكبّاتِ نفاياتِنا…