كورونا لبنان
كورونا لبنان

“كورونا”… تساؤلات محقة وحقائق في زمن التوحش

“كورونا”… تساؤلات محقة وحقائق في زمن التوحش

الشيخ عبد القادر فاكهاني/ مسؤول اعلام “جمعية المشاريع”

فكرتُ مليّا قبل أن أحمِلَ اليَراعَ لأصوغ في مقال أفكارا تجولُ في ذهني منذ استفحال فيروس كورونا، وسببُ ذلك احتمالُ أن تُفهم إشاراتي فيه على غير معناها أو أن يحوم الظنُّ حولي أنني أتعالى فيه أو أدّعي فهما زائدا ووعيا فائقا.

ومع ذلك قررتُ أن أكتب وعلى الله الاتكال…
في يدِنا آلةٌ لم يتخيلها أسلافُنا يوما، بها نتواصلُ صوتا وصورة، ونعدُّ أيامَنا، وندوّنُ أفكارَنا، ونعرِفُ الجهاتِ الأربع، ونسجلُ لحظاتِ حياتِنا وحياةِ غيرنا، ونقلّبُ صفحاتِ الكتب، ونعرفُ الوقت، وندوّنُ مذكراتِنا، ونحفظُ مواعيدَنا، ونعرفُ أخبارَ الشعوبِ والأمم والدول، ونستطلعُ الإحصاءاتِ والدراسات، ونقرأُ الغثّ والسمين، ونتجسسُ ويُتجسسُ علينا، ونجمعُ الأرقام، ونحجزُ تذاكرَ سفرنا وغرفَ فنادقنا، ونمارسُ ألعابَنا وألاعيبَنا… آلةٌ قرّبت البعيدَ وباعدت بيننا وبين القريب… قد تصلِحُنا وقد تفسدُنا ونفسدُ غيرَنا بها… آلةٌ جعلناها شيئا مفيدا أحيانا ومدمرا أحيانا أخرى… آلةُ تعارفٍ وجفاءٍ… آلةُ بناءٍ وهدمٍ في آن… الهاتف الجوّال.

وقبلها بكثير وصلوا إلى القمر… وجالوا في الفضاء بحثا عن ماء وحياة… وتبارزوا هناك… فوق… بعد أن أشبعوا جهةَ تحت حيث نقف على وجه الأرض صراعاتٍ وحروبا باردةً وساخنةً وساحاتِ وغى ونزاعاتٍ حقيقيةً ووهميةً وأخرى متوهمة في أذهاننا… وكلُّها على حسابنا… وتبارزوا في صنع أسلحة الدمار الشامل والقنابل النووية… وأصبحت التكنولوجيا رهنَ الإشارة ومطيةً لكسب السيطرة والنفوذ وجني الثروات وتحقيق الأحلام.

 فالجائحة هي الشدةُ والمصيبةُ العظيمة، وكورونا شدةٌ اجتاحت حياتَنا اجتياحا لا مثيل له في عصرنا الحديث…

وفجأة… يظهرُ جسمٌ صغير، أو بالأحرى يظهر اسمُه وأثرُه، يقعدُنا كما يقعدُنا هاتفُنا الجوال بل وأكثر، ونصبحُ أسرى بين يديه كما نحن بين يدي هذا الهاتف، وبعد أن ظننّا كأنَّ الأرضَ في قبضة هاتفنا أصبحنا وأصبحت الأرضُ في قبضته… جسم صغير صغير يُخيفُنا او لنقلْ أُريدَ لنا أن نخافَه كما لم يُخِفْنا أيُّ مرضٍ آخرَ يحصد كلَّ عام أضعاف أضعاف ما يحصده هو… بتنا نخافُه ونفكرُ فيه أكثرَ مما نفكرُ في صواريخَ نوويةٍ عابرةٍ للقارات يفصِلُنا عنها قرارٌ غاضبٌ وحركةُ أصبع وبضعُ كلماتِ مرور وزمنٌ هو أقلُّ بكثيرٍ من زمن انتظارنا له… جسمٌ صغير صغير يخوضُ حربَه الخاصةَ على كل غطرستهم وإنجازاتهم وصواريخهم ومراكز أبحاثهم…
هل اصطنعوه أم لا يَدَ لهم فيه؟! لا أدري ولعل غيري يدري ولعلنا سندري أو يبقى السر في غياهب التاريخ…
فيروسٌ يصعقُهم ويصعقُنا كأننا في أوائل القرن العشرين أو مطلع التاسع عشر… أين هواتفُكم وأين صواريخُكم وأين مكوكاتُكم الدائرةُ في الفضاء… أين أبحاثُكم… أين مراكزُ استخباراتِكم ونفطُكم وأموالُكم… أين ذكاؤكم المزعوم؟؟؟

في أولِ طلّتِه غيرِ البهية علينا تقاذفوا الاتهامات… فيروس صيني… فيروس أميركي… فيروس كبرى شركات الأدوية واللقاحات… فيروس آت من مصانع “ووهان”… أو من خفافيش الليل…!!! أُتخِمنا اتهاماتٍ متبادلةً وشكوكا فيما كان هذا الفيروسُ يتسلل إلينا ببطء متصاعدٍ حتى انقضّ على حياتنا وأحلامنا وآمالنا وأولادنا…
واليوم صاروا يسمونه جائحةَ كورونا… وليس هذا “تدليلا وتدليعا” له فالجائحة هي الشدةُ والمصيبةُ العظيمة، وكورونا شدةٌ اجتاحت حياتَنا اجتياحا لا مثيل له في عصرنا الحديث…

هل كنا بحاجة لهذه الجائحة حتى نفيق؟؟؟ هل كنا في سلام وأمان فيما نرزح الآن تحت وطأة حرب وخوف؟؟؟ هل كانت أرضُنا خاليةً من الجائحات فاجتاحتنا كورونا وحدها؟؟؟
قبل كورونا كنا في ألفِ جائحةٍ وجائحة… حروب… مجازر… دمار… فتن… في بلادي مات مئاتُ آلافِ الأطفال والكهول والنساء والشباب ودُمرت مدن وقرى ولم يتحرك لهم جفن… فلسطين تحت وباء الاحتلال ولم يجدوا له دواء بل لم يبحثوا عن دواء…
ومع ذلك يصفون كورونا بالجائحة… نعم هو جائحة ولكن ماذا عما ارتكبته أيادي البشر من جائحات؟!!!
لماذا لم تعلنوا حالة الطوارىء والتعبئة العامة إلا ضد جائحة كورونا؟!!! كم كانت الهشاشةُ عميقةً فلم يصمد كبرياؤهم وانظمتُهم طويلا أمام شىء صغير تغلّف حقيقتَه رواياتُ المؤامرات؟!!!

دعونا منهم ولننظر في أنفسنا… كم هي الجائحاتُ التي تضربُ حياتنا كلَّ يوم… إلحاد… فجور… مجون… فساد… عقوق… مخدرات… كحول… كذب… نفاق… خداع… غش… ربا… قمار… رياء… حسد… حقد… مؤامرات في أُسَرِنا وبيوتِنا من داخلها وخارجها… يقتلُ الأخُ أخاه من أجل أمتار من أرض ودراهم تركها أب راقد تحت التراب… ولا نفكرُ بما تحت التراب… بل نفكرُ بما فوقه من متاع زائل يجعلنا نتقاتلُ كلَّ يوم وندمرُ أنفسَنا كلَّ يوم ونهتكُ أعراضَ بعضِنا كل يوم…
ومع ذلك كله نصرفُ شجاعتَنا المتوهمةَ في كلماتٍ جوفاءَ وحروبٍ خرقاءَ عبر ما أسمي وسائلَ التواصل الاجتماعي وهي غالبا ما تكون في الواقع منابرَ للبغضاءِ والشتائم ِ وتسجيلِ الانتصارات الوهمية…

جَعَلَنا هذا الفيروسُ الصغيرُ المجهولُ في بيوتنا فتبين أن كثيرا منا عاشقٌ للإشاعات ونشرِها… مغرمٌ بنفسه إلى حد الغرور… وملتفتٌ لحاجته هو إلى درجة الأنانية…

ندّعي الفهمَ في السياسة ولا نسوسُ بيوتنا… والدرايةَ بالاقتصاد والمال ونجهلُ ضبطَ مصروفِنا وعصرَ نفقاتِنا… والإلمامَ بالتاريخ ولا نحفظ تواريخَ ميلادِ أبنائنا… والقدرةَ على حل مشاكل الآخرين فيما المسافةُ بيننا وأزواجنا كما المسافة بين وادٍ سحيقٍ وجبلٍ عال… أما في الطب فلنا فيه باعٌ وصولاتٌ وجولات، نصِفُ الأدويةَ العصرية والأعشابَ كشربة ماء… وصفات غبّ الطلب وبلا طلب لكل الحالات ومختلف العوارض وجميع الأجسام والطباع… فما لا نعرفُ علاجَ مشكلةِ احتباسِ بطونِنا وفكَّ عقدةِ أرقِنا الليلي وقلقِنا النفسي…

يصفق بعضنا للعاملين في الفرق الصحية المهتمة بمرضى كورونا وعندما يدخل إلى غرفته المغلقة يهمس أو يصرخ في ابنه الممرض أو الممرضة: إياك أن تعمل معهم فالأمر خطر عليك!!!

ندّعي أننا نحبُّ أرحامَنا وخُلَّصٌ مع أصدقائنا وحريصون على جيراننا ومتعاطفون مع المساكين والفقراء… وإذ بكثير منا أمام جائحة كورونا تجتاحُه الأنانيةُ وتفضحُه مزاعمُه الجوفاءُ ومشاعرُه الفارغةُ من المضمون… خبّئ قرشَك الأبيضَ ليومك الأسود… هكذا سمعنا من آبائنا… وجاء اليومُ الأسود فخبّأنا قرشَنا لبطوننا نحن… ولم نسأل عن رحِم ولا صديق ولا جار ولا فقير… ولم نقسم الرغيف بل قصمنا ظهور بعضنا… لا أعمم كلامي… فالخير موجود واهل الخير موجودون… ولكن… هل أنا منهم؟؟؟

نقول: تراحموا ولا نفعل… نقولُ أشياءَ كثيرةً ونفعلُ القليلَ أو لا نفعلُ شيئا… نحدّث معارفَنا بمناماتنا ولا نصارحُ أنفسَنا ولا نحدّثُها عن حقيقتنا.
يقفُ بعضُنا على شرفات المنازل يصفقون للعاملين في الفرق الصحية المهتمة بمرضى كورونا وعندما يدخل إلى غرفته المغلقة يهمس أو يصرخ في ابنه الممرض أو الممرضة: إياك أن تعمل معهم فالأمر خطر عليك!!!

لقد أطلتُ الكلام…
ولكن ماذا لو انزاحت هذه الغُمّةُ عنا مدةً من الزمان ثم جاءتنا جائحةٌ أخرى أمرُّ وأدهى؟؟؟!!!
ساعتئذ لعلي أكتبُ مقالا جديدا إن كنتُ حيا… ولعلي أكون واحدا ممن لم يؤثر فيهم مقالي شيئا ولم يغيّر فيهم طبعا ولم يحرك لهم جفنا.

ظنّي أن ما بعد كورونا ليس كما قبله في علوم ووقائع السياسة والاقتصاد والمال والطب والأبحاث وفي العلاقات الإنسانية والاجتماعية.

وظنّي أن ثمّةَ فجرا جديدا وفرجا منيرا قد يظنه البعض بعيدا وأراه قريبا.

اللهم اصرف عنا هذا البلاء.
اللهم أرنا الحقَّ حقا وارزقنا اتّباعَه، وأرنا الباطلَ باطلا وارزقنا اجتنابَه.
اللهم اجعلنا من أفواج جنود الفجر الجديد المنير ولا تجعلنا جنودا للشر والباطل.

قال الله تعالى: “ولَنَبلُوَنَّكُمْ بشیءࣲ من الخوفِ والجوعِ ونقصٍ من الأموالِ والأنفسِ والثمراتِ وبَشِّرِ الصابرين”.

شاهد أيضاً

محمد سعيد الخنسا

دمعة فراق

دمعة فراق محمد سعيد الخنسا ودع لبنان والعالم الإسلامي عالماً جليلاً عاملاً عاملياً مجاهداً حجة …