محسن الأمين: العالم المجتهد وحركته الإصلاحية
سلوى فاضل
يحتفي “مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي” بالسيد محسن الأمين من خلال كتابه الذي أصدره عام 2012 ضمن “سلسلة أعلام الفكر والإصلاح في العالم الإسلامي” تحت عنوان “محسن الأمين: العالم المجتهد وحركته الإصلاحية” الذي أعدّه وكتبه الدكتور عبدالمجيد زراقط الذي أعطى من إسلوبه لطريقة البحث، التي ركزت كثيرا على الجانب الأدبي في حياة السيد الأمين.
يهتم المركز بعرض كل ما يمكن عرضه عن السيد محسن الأمين على مدى 384 صفحة، موزعة على ثمانية فصول وعرض لمؤلفاته ومضمونها ولأشعاره ولكل تفصيل قد يُفضي إلى التعرّف على هذه الشخصية التاريخية التي إستعادها الإعلام في السنوات الأخيرة.
يشد كتاب عبدالمجيد زراقط القارئ في كل صفحة لمزيد من التعرّف على مرحلة مهمة وشخصية استثنائية في جبل عامل، المنطقة التي سُميّت لاحقا بـ”الجنوب”، وهو اسم رفضه السيد ونجله المؤرخ السيد حسن الذي جمع نتاج والده فيما بعد، وحاول أن يُكمل النواقص وجعلِها تتمات لما كان الوالد يريد.
من هو السيد محسن الأمين؟
ولد سماحته ونشأ في شقراء عام(1284هـ – 1867م) من والد تعود جذوره إلى العراق لعائلة قشاقش. تصدّى في كتاباته ومواقفه وآرائه لكل التشوّهات التي طالت المذهب الشيعي، ويؤذي الإسلام والمسلمين وأهل البيت وجبل عامل.
وقد عرض الدكتور زراقط، وهو المختص بالأدب العربي وأدب الأطفال والرواية، بأمانة فائقة لكتب ومواقف وحياة السيد الأمين، وركز على الجانب الأدبي لدرجة يخال معها المرء أن السيد شاعر. لكنه يفاجأنا في الفصول التالية بالتأريخ لمرحلة مهمة من حياة المنطقة العربية خلال الاحتلال العثماني ومن ثم الانتداب الفرنسي.
الوفاة
توفيّ السيد محسن الأمين عام 1952 عن 85 عاما، ودفن في الشام. وهو الذي جال بين جبل عامل والشام والعراق وإيران والحجاز كرحالة وكباحث ومجتهد ومؤرخ حيث كتاباته تخطت الـ18 مؤلفا. وقد أكمل ابنه المؤرخ الراحل حسن الأمين مسيرته بالتأريخ والتحقيق، لكنه أيضا دون أن يُتم الأجزاء الكاملة لـ”أعيان الشيعة” وتحقيق بعض المؤلفات.
الكتاب يبتدأ بالتأريخ للبنان وسورية والعرب، وهذا يستدعي التساؤل عن السبب؟
يستعرض السيد الأمين مآسي جبل عامل والفقر والاضطهاد والاستبداد العثماني، حيث كان التأريخ لمرحلة ما قبل السيد محسن الأمين هي المدخل للكتاب، وإن بدت عرضية إلا أنها مفيدة ومقدمة لمن لا يعرف تاريخ جبل عامل بدءًا من الأتراك حتى الفرنسيين، وكل ذلك يُفسر ما جرى فيما بعد على أهل “الجنوب” في مراحل لاحقة من احتلال ومقاومة وتحرير ومواجهة. ويقول زراقط: “السيد محسن الأمين خرج في الفضاء الرحب، لينجز حركة اصلاحية في غير ميدان من ميادين الحياة ما جعل غير باحث يصنفه في عداد المصلحين المسلمين في هذا العصر”.
تغييب جبل عامل
بعد أن يستعرض تاريخه ومولده ونتاجه ومواقفه وسيرته وتاريخ المنطقة ككل، يعيش القارئ في مرحلة لا تتطرق إليها كتب التاريخ في المدارس في لبنان إطلاقا وتغييب تام لمنطقة بهذه الأهمية التاريخية. وما يؤخذ على الكاتب هو اعتماده على التأريخ الهجري دون الميلادي في أحيان كثيرة مما يُضيّع القارئ.
في الـ80 صفحة الأولى يظهر جهد المؤلف الكبير لتقديم صورة مختصرة عن مرحلة غنية ومليئة بالأحداث بطريقة مميزة تُغني القارئ وتضعه على سكة التعرّف على الشخصية المعنيّة بالكتاب. وتميّز بلجوئه إلى الشعر في كل مواقفه، وليس على شكل بيانات أو مواقف.
الإصلاحي
فمن بين الإصلاحيين المسلمين والعرب المعروفين كان منهم السيد محسن الأمين، لكن الكتب لم تذكره كونه شخصية إصلاحية شيعية، وربما لكون الشيعة، وضمنيا، واجهوا وبقوة لمن سعى للإصلاح الداخلي للمذهب.
لم يتخلَ السيد عن هويته التي هي بالنسبة إليه تضم العروبة والإسلام معا. مما أبعده عن التعصب وعن المصلحة الذاتية، وكرّس جلّ وقته للدفاع عن العقيدة والمذهب فشنّ حربه على الخرافات، وهو ما اشتهر به حتى اليوم رغم مرور عقود على رحيله.
تأييد ثورة فيصل
ورغم ظلم العثمانيين لأهل “جبل عامل” إلا أن ذلك لم يمنعه من تأييدهم في مواجهة الاستعمار الغربي. وأيد فيصل في ثورته، ورافق الفريق للقاء فيصل بن الحسين وتسليمه مقررات مؤتمر وادي الحجير (1920). وكان أن رفض اغراءات الفرنسيين حيث طلبوا منه تولي رئاسة العلماء والافتاء. بل أيد المقاومة التي لا تزال تستلهم مواقفه إلى اليوم.
لم تغب فلسطين عن مواقفه، فهو دعم مقاومة جبل عامل وسورية وفلسطين. وهو الذي رفض دخول اليهود إلى فلسطين وكتب عن سر نجاح الغرب، ولمواجهته دعا إلى تجاوز المذهبية في سبيل التحرر من الاستعمار. وطرح تساؤلاته عن سرّ تقدم الغرب وانجازاته حيث أخذ هذا الغرب عن الإسلام التفكير والثبات والقوة والعزم.
التربية والتعليم
ركز السيد الأمين جلّ اهتمامه على التربية والتعليم واصلاح المجالس العاشورائية من الخرافات التي لحقت بها بعد التأثر بموجات من القوقاز وأذربيجان. وجاء اهتمامه بالتعليم ومستواه ونوعيته وبتعليم الفتيات حيث طارت شهرة المدارس التي أسسها في الشام في الآفاق.
عُرف عنه أنه الزعيم الديني الوحيد الذي لم يزر المفوض السامي في مركزه ببيروت، ولا مكتب المندوبية الفرنسية في الشام.
أفرد الدكتور زراقط فصلا كاملا للحديث عن “الإصلاح الديني” لدى السيد الأمين. وهذه أهم صفة اتصف بها سماحته، إذ حُورب من قبل علماء شيعة بشكل واسع. كما يُعد من أبرز دعاة التقريب بين المسلمين رغم كل معاناة أهل “جبل عامل” من تشويهات المؤرخين وظلم الحكام السنّة.
وكان يرد بكتاب على كل ما كُتب في كل مجال من مجالات نقده، إذ كان سلاحه الرد الموضوعي الذي يفصّل فيه رأيه بمنطق وعقلانية دون تعصب أو عصبية أو نفور حتى أنه اشتهر بذكر حسنات من ينتقده في مجالات تستحق الاشادة، فلم يكن يغمط صاحب الحق حقه ولو كان عدوه.
فهو لم يخرج عن سياقات العقل الشيعي أبدا. فلماذا تمت محاربته من قبل علماء بارزين هل لأنه تقرّب من السنّة؟ وما الذي أراد اصلاحه؟. وفي الوقت نفسه عانى من مواقف العلماء السنّة، وخاصة رشيد رضا الذي ألّف كتبا يتخوّف فيها من مسايرة السلطنة العثمانية للشيعة واطلاقها يدهم حيث تشيّع ثلاثة أرباع أهل العراق السنّة.
تشذيب مجالس عاشوراء
واشتد السجال بين الطرفين على صفحات المجلات بين “المنار” و”العرفان”. ولم يكن نقد السنّة للشيعة بسبب عقيدتهم الإمامية، بل فيما يخص مناسك عاشوراء التي جهد السيد لمنع المبالغات كالتطبير والضرب بالسيوف والأصوات والاختلاط والأعمال المنافية للعقل والمنطق الآتية من بلاد القوقاز وآذربيجان، وقد وجدت لها رعاة، أبرزهم الشيخ عبد الحسين صادق (1925) في النبطية حيث نقلها بعض الإيرانيين (1895). ولا يزال الشيخ عبدالحسين صادق الحفيد مستمرا في طريق جده حتى اليوم.
لكن رغم كل ذلك لم يتراجع الأمين أمام الهجمة القوية عليه، ولا زال الموقف منقسما حتى عصرنا هذا، رغم تحريم المراجع الشيعية المعاصرة كالسيد علي خامنئي عام 1995 للتطبير وحزّ الجباه واستعمال السيوف والسلاسل والطبل والزمر ولطم الصدور.
وقد أصدر المرجع الأمين عدة كتب شهيرة صحح فيها المجالس حيث رفض القصائد المُلحنة في المجالس، وطالب باقتصارها على الرواية التاريخية الصحيحة، مع العبرة الأخلاقية والموعظة والشعر، اضافة إلى الاطعام على حب أهل البيت، وأبرز هذه الكتب هي “رسالة التنزيه عن أعمال الشبيه”.
ففي كتاب الدكتور عبدالمجيد زراقط يكتشف المرء أن الخلاف بين الشيعة حول مراسم عاشوراء إبتدأ منذ عام 1925، ولا يزال مستمرا رغم مرور السنوات.
وأبرز من حارب الغُلاة هو الشيخ مهدي القزويني وأبو الحسن الأصفهاني.
من هنا، كان همه عقلنة الشعائر الدينية في عاشوراء، فكتب ما كتب. لكن حربه كانت ضد الأعداء أولا، وثانيا ضد المُسيئين من المنتمين للمذهب الذين يشوهون التقاليد العاشورائية فتضيع أهداف ثورة الحسين(ع).
تطوير النظام التعليمي في الحوزة
امتاز الأمين بسعيه لتنظيم التعليم في الحوزة، وجعله كالتعليم الأكاديمي مُنظما في مراحل وصفوف، وليس كما كان حاله في حوزات النجف قديما من فوضى وغياب التنظيم.
كما امتاز، إضافة إلى كونه مربيا ومصلحا اجتماعيا ودينيا، أنه كان مؤسسا لعدد من المدارس التي تميّزت بمستواها العلمي الرفيع، وعمل جاهدا لتيسير لغة التدريس والكتابة، واهتم باللغة العربية لجعلها سلسة على الطالب، على العكس مما كان موجودا في الكتب آنذاك. وكان أيضا رحالّة امتازت رحلاته بالموضوعية والتنقيب والتدقيق.
فكان تأليف الكتب المدرسية مهما جدا بالنسبة إليه، كذلك كان نظم الشعر، وقد استخدمه في سبيل طرح افكاره. ولم يطرح نفسه شاعرا، لكنه حيال كل حدث نجد له أبياتا من الشعر.
رحالّة
وهو لم يُغير ولم يُبدل من صوره الرحلية بحسب رغبة هذا أو ذاك، بل بناءًا على ما رأته عيناه خلال رحلاته إلى العراق وإيران والحجاز والشام، وفي جولاته في قرى جبل عامل.
وسعى من وراء كل هذا الجهد الجبار في التأليف والنسخ والنقل والترجمات للشخصيات لتبيان الحقائق وللرد على من يُوغر الصدور حقدا على شيعة جبل عامل، خاصة أن ثمة كتّاب قد ألفوا كتبهم ليُخرجوا الشيعة من الإسلام عبر أباطيلهم وأكاذيبهم.
فالعديد من الرحالّة المشهورين ألفوا وفق رغبة الحاكم والسلطان، وكذبوا في نقل ما كان عليه حال أهل جبل عامل حقدا، كونهم كانوا قبل الانتداب الفرنسي يعيشون نوعا من الاستقلالية.
وتميّز جبل عامل بكثرة العلماء في القرن السادس الهجري، أي الثاني عشر الميلادي، وجبل عامل أو بلاد بشارة تعود تسميتها إلى “حسام الدين بشارة العاملي” على حد قول السيد الأمين.
وأبرز من رد عليهم الأمين هم كل من: شكيب ارسلان، ومصطفى صادق الرافعي، وابن حزم، وأحمد أمين، وأحمد حسن الزيات، وعبدالقادر المغربي، وفؤاد حمزة، ورشيد رضا (مجلة المنار)، ومحمد ثابت المصري، وابن قتيبة، وسليم الجندي. فكان هؤلاء يشتمون ويختلقون الأخبار ويشوهون الحقائق، وكل ما يمكن أن يشوّه صورة الشيعة في عقول الآخرين. “فقد امتلك صفة الباحث الفذ الذاتية والموضوعية وسعى لانتاج المعرفة لاصلاح المجتمع وتخليصه من عيوبه”.
ختاما
ويمكن اعتبار السيد الأمين صحفيّا استقصائيا، بالمعنى المعروف اليوم، حيث كان يُقدم الدليل على كلامه، مُواجها الخصم المفتري. فلم يترك مسألة إلا وعلق عليها. أما أهم كتبه “الشيعة في مسارهم التاريخي” إضافة إلى “رسالة التنزيه” و”نقض الوشيعة”.