45 عاماً على رحيله..شريعتي الذي قُتِل ولم يمتْ!
د. محمد حسين بزي *
إنّه التاسع عشر من حزيران عام 1977، لندن، الواقع فيه مقتل المفكر علي شريعتي، (1933-1977). نعم، قتل علي شريعتي، قتل وفي قلبه الآلاف من غصّات رفع الاستعمار عن الشعوب، ومثلها من أوجاع دفع الاستحمار عن العقول والنفوس.. قتل شريعتي ولا يزال التفكير تهمة، والرأي الآخر خيانة، وبعض التراث كارثة لم تعالج بعد، وبوتقة بعض “رجال الدين” تزداد نشرًا للخرافة باسم المقدس والدفاع عنه، وتستولي على أموال الناس وعقولهم باسم نشر الدين والمذهب؛ فيصرفون مال دين الله على دنياهم، والمساكين من المستضعفين يحفرون فقرهم وجوعهم في بطونهم وبيوتهم ومستقبلهم دون رقيب أو معين؛ إلّا ما رحم ربي.. قتل شريعتي بعد أن ترك مئات المحاضرات، وعشرات الكتب التي كان لها الفعل الثوري الجارف الذي مهّد للإطاحة بأعتى نظام ملكي دكتاتوري في القرن الماضي؛ حتى بات “معلم الثورة” بلا منازع.
وفي هذا السياق، وقبل مقتله قال شريعتي: “إلهي اِرحمني رحمة لا تدرّ خبزًا ولا شهرة، وقوني كيما أقدر على أن أضحي بالخبز والشهرة في سبيل الإيمان؛ فأغدو في صفّ الذين يقبضون مال الدنيا لينفقوه على الدين؛ لا في صفّ الذين يقبضون مال الدين لينفقوه على الدنيا..”.
السنّة والشيعة .. حرب المصالح
ولكن الميراث الأهم الذي تركه شريعتي، هو روحه الثورية القلقة الباحثة المتأجّجة في الأجيال حتى اليوم، وشخصيته الفذّة في تطبيق أفكاره بكلّ صرامة على نفسه أولًا قبل الآخرين، فعاش الانسجام التّام بين الفكر وشخصية صاحبه، حتى صار قدوة في الأمرين.
وبعد 45 عامًا على رحيله المبكر؛ لم يسلم شريعتي من المتعصبين من السنّة والشيعة على السواء، فبعض الشيعة اعتبره وهابيًا، وبعض السنّة اعتبره شيعيًا متعصبًا، ومن الفريقين من اعتبره ماركسيًا ومتغرِّبًا..! وفي هذا يقول شريعتي: “إنّ الحرب بين المسلمين ليست حربًا بين التشيّع والتسنن، ولا من أجل العقيدة، بل هي معركة بين مصالح دول؛ ضحيتها العوام من السنّة والشيعة..”.
اعترافات شريعتي غير المنفصم
وكما الآباء المؤسسون كالأفغاني وإقبال اللاهوري ومالك بن بني؛ فإنّ شريعتي الذي عاش في دنيانا 44 عامًا لم ينفصم عن واقعه، ولا عن مجتمعه، ولا عن دينه ولا عن صفائه، وحتى لم ينفصم عن أخطائه في بعض أفكاره وصرخاته، والتي اعترف بها بكلّ صراحة وجرأة وتواضع، وطلب من بعض أصدقائه تصويبها قبل نشرها، فيقول: “كلّ ذلك كتبته وأنا منفي وتحت ظروف ضاغطة، ومؤامرات محاكة، وفي حال كنت أنتظر فيه المصيبة في كلّ لحظة، لذلك يجب أن يعاد النظر في هذه الكتابات من الناحية العلميّة والفنيّة، وتصحيح الأخطاء اللفظيّة والمعنوية، وأن تطبع مرّة أخرى، فهي ثمرة حياتي، وكلّ ما أتمنى، وهي كلّ وجودي وميراثي..”.
ويقول في مكان آخر: “إلهي وفقني للمحاولة في الفشل، وللصبر في اليأس، وللسير بلا رفيق، وللجهاد بلا سلاح، وللعمل بلا جزاء، وللفداء في صمت، وللدين بلا دنيا وبلا عوام، وللعظمة بلا شهرة، وللخدمة بلا خبز، وللإيمان بلا رياء، وللخير بلا نفاق، وللشجاعة في نضج، وللمناعة بلا غرور، وللعشق بلا هوس، وللوحدة بين الناس، وللمحبّة من غير أن يعلم المحبوب..”.
في انتظار غوديفا..؟!
لهذا، فإنّني أعتبر شريعتي بمثابة ثمرة عمر الأفكار الثورية العريقة والصادمة لحينه، ويبدو أنّنا نحتاج لفكرة الصدمة التي قادها شريعتي في تنقية الموروث الشيعي حتى نعاود الصحو من جديد، لأنّ الحرية في إعلاء الحق هي أعلى مراتب الوجود الإنساني، وتستحق التضحية كما ضحّى شريعتي، ولست أبالغ إنْ تساءلت وأنا أعايش يوميًا هذا الكم الهائل من التعصّب والكراهية وعدم الاعتراف بالآخر: هل أصبحنا من شدّة الترهيب والترغيب نحتاج لـ غوديفا (Godiva) جديدة تخرج علينا على حصانها الأبيض حتى ننتبه ونصحو من هذا السبات..؟! إنّني أتساءل، وحقّ لي أن أتساءل، لأنّ الطفل الذي انتظره شريعتي كي يأتي إلى قبره ويأخذ منه حفنة طين يصنع منها مزمارًا يوقظ فيه الشعوب النائمة؛ لم يولد بعد..! وهو القائل: “فإنْ يقتلوني؛ فسوف لن أداهنهم، ولن أضحّي بالحقيقة من أجل المصلحة، قد يستطيع هؤلاء الجلّادون أن يعلّقوا جسدي على المشنقة، أو أن يذوّبوني بالشّموع، ولكنّي سوف ألقي في قلوبهم حسرة؛ وإلى الأبد، وهي أنّهم لن يسمعوا كلمة آه منّي.. إلهي .. ويا ملجأي الدائم، علّمني كيف أحيا أمّا كيف أموت ..؟ فإنّني سأعرفه..”.
وفعلًا، لقد قتلوه، لكنّه عرف كيف يموت.. أمّا نحن، فلا زلنا نجهل كيف نحيا..؟!
الخروج من شريعتي الصنم
وبعد مرور 45 عامًا على رحيله، لا زال شريعتي يُستلهَم في المشهد الثقافي كشعارات، ومقتطفات، ومرثيات، لكن لم يُستثمر كفكر عملي محرّك في بناء الذات الثورية، ولا حتى في العودة إلى الذات التي نظّر لها.. شريعتي لم يضحِ من أجل تلك الشعارات التي غالبًا ما تدخل في بازار السعار المذهبي والقومي، بل ضحّى من أجل الإنسان وآصالته وحريته وكرامته الإنسانية، ضحّى من أجل بنائه وإعداده، من أجل رقيه وسعادته، علينا أن نخرج من شريعتي الصنم أو الشعار، وندخل إلى شريعتي الفكرة الخلّاقة، الفكرة الباحثة المدقّقة، لنؤيده ونختلف معه، لننقده ونبني عليه، وأخيرًا لنتجاوزه باستيلاد شريعتي جديد، وأكثر.
45 عامًا من الحرقة
أمّا الذي يبقى حارقًا في النفس رغم كلّ ما تقدم، فإنّه وبعد 45 عامًا على وفاته لم نستطع إنجاب شريعتي آخر، شريعتي يحاكي الناس بلغة الناس..! بآلامهم وآمالهم؛ يعيشها ويدافع عنها، ويدفع حياته مهرًا لها.. فلا تزال كتب الرجل وبمعظم لغات العالم الأكثر انتشارًا، ولعَمري هذا مرض عضال في جسم الفكر الشيعي، بل والإسلامي بشكل عام.
• شاعر وروائي لبناني، مدير عام دار الأمير في بيروت، ناشر أعمال شريعتي باللغة العربية.