التّسخيري..من الصومعة إلى الدير ومن الكنيسة إلى المسجد
الدكتور عباس خامه يار/ المستشار الثقافي الايراني في لبنان
ضاق صدري من رثاء الأحبّة وكتابة الرسائل المعزية والمرثيات في شخصياتٍ فاضلة حظيت بمعرفتها وأنست بصحبتها. واليوم، فاض القلب ألماً على فراقها، ولا سيما في الشهور الأخيرة، إلا أنّ رحيلها بذاته جمّد القلم، فعجز أمام عظمتها ومجدها، وانتحبت الكلمات، وانتفى التعبير.
آية الله محمد علي التسخيري كان أبرز هؤلاء الأحبة. كنت من أوائل الذين بلغهم خبر وفاته المفاجئ والصادم، فوجدتني أسارع إلى نشره، وسرعان ما انهالت عليّ بعدها رسائل الأصدقاء، الذين كانوا ينتظرون أن أخطّ – كعادتي – بعض البوح بقلمي المرهق وقلبي الحزين!
ما أصعب الكتابة عن نهاية حياة رجلٍ عظيمٍ مثله! وما أشدّها إيلاماً!
سمعت اسم محمد علي التسخيري للمرة الأولى في مرحلة مراهقتي في بداية السبعينيات في قم، وقرأت كتاباته في مجلّة “الهادي” التي كان رئيس تحريرها المرحوم السيد هادي خسروشاهي آنذاك، وقمت بمطالعة سائر كتاباته الفكرية طوال سنوات.
بذل الشّيخ محمد علي جهداً وهمّةً عالية في زمن الثورة الإسلامية، وفي الدفاع عن أسس الثورة ونشر أفكارها وترويجها بين المجتمعات الإسلامية، إذ كان بعد انتصار الثورة من المتحدّثين والمحامين الأشداء عن الثورة على المستوى الدولي، وفي المجالات كافة. خلال سنوات الدفاع المقدّس الثماني، دافع عن المجاهدين في الوطن على المستوى الدولي، كما لو كان صوته في صرخته ومنطقه مكمّلاً لخطاب السيدة زينب (ع) في مجلس يزيد.
خلال المؤتمر السابع عشر لوزراء الخارجية الَّذي أقامته منظَّمة المؤتمر الإسلامي، التي تشكّلت من 24 إلى 27 آذار/مارس 1988 في مدينة عمان عاصمة الأردن لمحاكمة بلادنا، كان الممثل الوحيد للجمهورية الإسلامية الإيرانية هناك.
في ذاك الوقت، كان أستاذنا الفاضل متألقاً في حضوره. كان يشارك في مؤتمرات “ملتقى الفكر الإسلامي” الفكرية السنوية في الجزائر، والتي أقيمت منذ العام 1968 وحتى العام 1990 في 22 دورةً.
كان هذا المؤتمر أيقونةً فكريةً في العالم الإسلامي، ومحفلاً يجمع علماء الإسلام بمختلف توجهاتهم ومذاهبهم ونحلهم. وكان يشارك في هذه المؤتمرات عددٌ من أبرز علمائنا ومفكرينا، وكان آية الله التسخيري من المشاركين الأصليين الثابتين في هذه المؤتمرات.
إلى جانب كل ما سبق، كان هذا الرجل مؤسساً ومنظّماً لمؤتمرَي الفكر الإسلامي، ثم سلسلة مؤتمرات الوحدة الإسلامية السنوية في إيران، استمراراً لملتقى الفكر الإسلامي في الجزائر، واستلهاماً منه. هذا المؤتمر الذي كان متأثراً بأفكار ورؤى المفكر الجزائري البارز مالك بن نبي، كان يُعقد بمبادرة من المرحوم مولود قاسم بلقاسم، وزير الشؤون الدينية في الجزائر آنذاك، إذ كان هدفه جمع النخب السياسية والفكرية في العالم الإسلامي حول طاولةٍ واحدة. كان هذا المؤتمر يستمرّ من 8 إلى 10 أيام، وكانت تطرح فيه أفكارٌ بغاية الأهمية، وكان يشارك فيه مفكرون ومبلغون وإصلاحيون من اليمين واليسار، من الشيعة والسنة وممثلي المذاهب الإسلامية الأخرى.
كان الشيخ محمد علي على تواصلٍ مع الشخصيات البارزة في العالم الإسلامي آنذاك، ممّن كانوا يشاركون في هذه المؤتمرات والندوات، حيث أخذت شخصيته العالمية تتبلور تدريجياً.
كان يشارك في هذا المؤتمر أفرادٌ مثل أبو زهرة، محمد الغزالي، يوسف قرضاوي، زينب الغزالي، فتحي يكن، محمد سعيد البوطي، أحمد سحنون، أبو الحسن الندوي، فهمي هويدي، ومتولي الشعراوي، وكان يشارك في هذا المؤتمر من أوروبا كذلك أحياناً أبرز العلماء الإسلاميين، مثل أركون وروجيه غارودي. ومن إيران ولبنان والعراق، إلى جانب آية الله التسخيري، كان يحضر هذا المؤتمر علماء الشيعة البارزون، مثل الإمام المغيّب موسى الصدر، والمرحوم السيد هادي خسروشاهي، والمرحوم السيد جعفر شهيدي.
المناصب الثقافية التي تولاها الشيخ التسخيري متعددة. ومن المجالات التي كان له دورٌ مؤثرٌ فيها: الوكيل الدولي لمنظمة التبليغ الإسلامي (1981 – 1991)، الأمين العام لمجمع أهل البيت (ع) العالمي (لمدة 9 سنوات)، الوكيل الدولي لمكتب القائد المرشد (1990 – 1996)، رئيس منظمة الثقافة والعلاقات الإسلامية (منذ بدء التأسيس في العام 1994 إلى 2001)، الأمين العام للمجمع العالمي لتقريب المذاهب الإسلامية (2001 إلى 2012)، عضو في مجلس خبراء القيادة، ونائب رئيس مجمع فقه أهل البيت (ع) في قم.
ومن مسؤوليات هذا المجاهد المناضل أنه كان رئيس مجلس أمناء كلية أصول الدين، وعضواً في عشرات المؤسسات والمنظمات الثقافية الأخرى، وكذلك فعاليته في بعض المؤسسات الخارجية، مثل رابطة علماء المسلمين في مكة، ومجمع الفقه الإسلامي في جدة، التابع لمنظمة التعاون الإسلامية. وكان أيضاً نائب رئيس الاتحاد العالمي لعلماء الإسلام وعضواً في مجمع اللغة العربية في دمشق.
حمل الشيخ التسخيري على عاتقه مسؤولية مناصب مختلفة، لكنَّ لطالما كانت هذه المسؤوليات أضيق من إمكانياته، إذ إنه كان هو من يمنح المنصب قيمته. اللافت أنه بعد مرور عقودٍ، لا يزال غير الإيرانيين يعرفون الكثير من هذه المؤسسات من خلال اسم هذا الرجل.
رغم ذلك، لم تمنع هذه المسؤوليات التنفيذية آية الله التسخيري من الأبحاث والدراسات والتأليف. وبالتالي، ترك ميراثاً نفيساً في المجالات الفكرية المتعددة والحقول النظرية والعملية، وكانت له آراء واقتراحات إبداعية وحديثة في الاجتماعات الفكرية وجلسات اتخاذ القرارات. كانت مؤلّفاته بمثابة مراجع للباحثين، وقد بلغت مئات المؤلفات والحوارات واللقاءات والخطابات.
كان حكيماً وكبيراً ومتألقاً في آفاق العلوم الإسلامية كافة. كان له نهجٌ علميٌّ وتخصصيٌّ عظيمٌ في ما يتعلق بالمسائل الحقوقية المستحدثة، من قبيل حقوق الإنسان، حقوق الأقليات، حق المواطنة، حقوق المرأة والأسرة، وحقوق الطفل، إضافةً إلى المواضيع المختلفة في فقه الاقتصاد الإسلامي، كما كان صاحب رؤى فكرية في الحديث والتفسير، حيث كان بمثابة “دائرة معارف” سيّارة مواكبة دائماً، إذا ما صحّ التعبير.
شيخنا كان رمزاً للفكر والرؤية والثورة في مجال “الوحدة” و”التقريب” بين أتباع أهل البيت (ع) ومسلمي العالم. كان نجماً ساطعاً متميزاً في اجتماعات ومؤتمرات مجمع الفقه الإسلامي – التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي – اتحاد علماء المسلمين، المجمع العالمي لتقريب المذاهب الإسلامية، رابطة العالم الإسلامي، ومئات المؤتمرات الإسلامية الداخلية والخارجية الأخرى. فكرته الحديثة في الفقه المقارن كانت حلّ “القضايا المستعصية”. كان مفكراً منفتحاً لم يتجاوز السنّة والأصول مطلقاً.
لهذا، كانت الجلسات العلمية والفقهية تعتبر ناقصةً في غياب آية الله التسخيري. هذا المفكّر الحكيم كانت بنيته الفكرية والنظرية قائمةً على الحوار الجدلي. كان يطرح رؤيته بصلابةٍ بالاستدلال والمنطق، من خلال عدّته الفكرية والرؤى المتعالية، فكان لا يقنع الآخرين بالصوت المرتفع، وإنما بالأخلاق وقدرة المنطق. كان ناقداً فذاً يؤمن بأنّ الحوار هو المبنى المنطقي للقرآن والسنّة النبوية وسيرة الأئمة الأطهار. كان يمتلك قدرةً عالية في الخطابة والحوار، حيث لم تكن هناك شخصيةٌ قادرة على مجابهته.
كان يعلم جيداً ماذا يقول ومتى يقوله وكيف.. رغم ذلك، كانت الرزانة والتواضع من أبرز سماته الأخلاقية، ولم يكن يتخلى أمام المخالفين وحتى المتآمرين عن صفة الإنصاف والمروءة.
فعلاً كان مصداقاً كاملاً للآية الشريفة: {ولا يجرمنّكم شنآن قومٍ على ألّا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى}. تشهد على ذلك المؤتمرات المحفوفة بالتوتر التي عقدت في السنوات الأخيرة المأزومة في قطر والكويت والسعودية والعراق ولبنان.
فهمت جيداً ولمست خصائصه الأخلاقية بفعل لقاءاتي معه ومجالستي له على امتداد ما يقارب 4 عقود، ولطالما كنت أقف متأثراً أمام ما أشاهده فيه من صبرٍ وصلابةٍ وقدرة في الوقت نفسه على المنطلق والاستدلال، وكان يعتريني الفخر والاعتزاز بهذه الثقافة الإسلامية والإيرانية.
كان مدافعاً صادقاً عن الإمامة والولاية. لم يصله غبار الجهل واللاعقل من المتعصبين الجهّال العنيدين. كانت نفسيته لطيفةً وحساسة، وكلامه وسلوكه بعيدين عن العنف والتعصب. كانت له شخصية واعيةٌ وذكية وبشوشةٌ ومرنة وصبورةٌ، وطيبة الخلق، وواسعة الصدر بشكلٍ فريد. كان لسانه طلقاً وبليغاً، وفي الوقت ذاته كان على قدرٍ من رفعة الخلق والسلوك، بحيث يفرض احترامه على الجميع، حتى أشدّ مخالفيه. كان من أهل المداراة والتساهل والتسامح، وكذلك التعايش السلمي مع إخوة الوطن والدين والنوع، ولطالما كان يكرر قول مولاه عليّ (ع): “الناس صنفان: إما أخٌ لك في الدين وإما نظيرٌ لك في الخلق”.
كان العلّامة الشيخ كتلةً من الأحاسيس والعواطف ومشاعر الإنسانية. تشهد له على ذلك ابتساماته وطرائفه ودموعه.
في فعالياته، يمكن القول إنه كان فعلاً لا يكلّ ولا يملّ، وكان الليل والنهار بالنسبة إليه سواء، غير أنه كان يدعو الآخرين بكل محبّةٍ إلى أخذ قسطٍ من الراحة، فلا يرضى لغيره أن يتحمّل ما يتحمّله هو، ولا يجبرهم على ذلك. وقد لمست فيه هذه الرأفة في لقاءٍ استثنائيّ، عندما أراد أن يلتقي أسرتي ليودّعنا قبل ربع قرنٍ، في اليوم الأخير من إقامته في قطر.
خلال هذا اللقاء الذي تمّ بحضور رفيقه ومستشاره المخلص المرحوم قدرت الله علي زاده، قال بعد عدة توصياتٍ أبويةٍ لزوجتي وأبنائي: “بصفتي مسؤولاً ورئيساً للمؤسسة، آمر شرعاً وقانوناً بأن يتوقف خامه يار عن العمل. هذا يكفي! لقد أدّى دوره ومهمّته، وعليه أن يكون إلى جانبكم. يكفي حضوره المادي في المجالس واللقاءات”.
فلسطين المحتلة والقدس الشريفة ومنظومة مقاومة الاحتلال كانت دائماً “جوهرة” مواضيع بحثه خلال السنوات الأخيرة من عمره الشريف. لم ينسَ أبداً القدس وأبناء القدس والمجاهدين والمحاربين في محور المقاومة، رغم أنّ صبغة التقريب ووحدة التشيع والتسنن كانت تطغى على صفاته، وهو بذلك يعتبر قائد التقريب، وحامل رايته، ونجمه الساطع، وهو من الإصلاحيين الرواد في طريق الوحدة والصحوة الإسلامية في التاريخ المعاصر، مثل جمال الدين أسدآبادي، محمد عبده، شيخ محمد تقي القمي، الشيخ محمود شلتوت، وحسن البنا، غير أنّ حواراته بين الأديان كانت محور حديث علماء وقادة الأديان الإلهية.
لقد نهل من فيض نبعَين، النجف الأشرف وقم المقدسة، وأجاد تعلم فرضيات أستاذه الشهيد محمد باقر الصدر في تجربة ثورة الإمام الخميني (قده) الإسلامية، وكان يروي عطش عالم المعارف الإسلامية من خلال الترويج للمعارف الإسلامية الأصيلة، فكان حقاً حارس الحدود العقائدية وتعاليم أهل البيت (ع) ومدرستهم في جغرافية الإسلام والإسلام في جغرافية الأديان.
كان الأستاذ التسخيري يعتبر التشيع مدرسةً صانعةً للهوية. كان مفكراً يهتمّ بشكلٍ خاصّ بالعنصر الباطني، بغض الأدلة العقلية والنقلية، وكانت معظم رؤاه ترتكز على نظريتين محوريتين، هما العدالة والفطرة، وكان يعمل على إظهار الرؤى الدقيقة والأصيلة للإسلام الأصيل والتشيع.
في ذروة عطائه العلمي والمعرفي، كان يتفرغ لتحصيل المعارف كذلك. كان يصغي جيداً للآخر، أياً يكن سنّه ومستواه، وكان ينهال على المخاطب بالأسئلة ليتعلم المزيد. كان حقيقةً مصداقاً لـ”اطلب العلم من المهد إلى اللحد”.
يمكن تسمية آية الله التسخيري تاريخاً بحدّ ذاته. هو “صندوقٌ أسود” مليءٌ بالمعلومات والمعطيات القيمة في المجال الثقافي والفكري الدولي.
في العام الماضي، وقبل أيامٍ من مأموريتي إلى بيروت، تشكلت جلسةٌ بخصوص مجمع الفقه الإسلامي وكيفية استكمال فعاليات بلادنا في ذلك المجال في مكتبه الخاص، بحضور السادة الكبار الشيخ محسن القمي والدكتور أبو ذر إبراهيمي تركمان والشيخ الأراكي. بدأ خطابه بحرصٍ وحماسةٍ كبيرين، وبحركاتٍ بجسمه الضعيف والنحيل. وقد روى تاريخ المجمع، بحيث نال استحسان الجميع.
طلب إليه الشيخ القمي راجياً أن يعطيه مخطوط خواطره أو على الأقل إعادة سرد التاريخ شفهياً له، فوافق، وبدأت آلية التسجيل وحلقاتها، ولكنْ خسارةٌ كبيرةٌ أنّ الأجل لم يسمح، وبقي تاريخ سنواتٍ طوالٍ مخبوءاً داخل صندوق أسراره.
كان عالماً مثقفاً لا يشبهه أحد، ولم تسمح الفرصة لمعرفة مقامه العلمي وخدماته خلال حياته كما يجب. في الواقع، ينبغي أن يعاد التعريف عنه بصفته أحد رموز الحكمة والفكر المعاصر في العالم الإسلامي. من هنا، فإن المؤسسات والتنظيمات العلمية والبحثية ينبغي أن تعيد كتابة سيرة هذا المفكر، وتنظم آثاره الفكرية الواسعة، وتضعها بين يدي عموم الناس. هي ضرورةٌ لا يمكن التغافل عنها ونسيانها مع مرور الوقت.
قليلون جداً من أبناء الجيل القديم وجيل اليوم الفاعل في بلادنا في مجال الأمور الخارجية والعلاقات الثقافية الدولية، ممن لم ينهل من فيض الشيخ التسخيري وكماله. كانت محبته للآخرين بلا حدودٍ وقيود، ولم تكن تميز بين شابٍ ومسنّ، فالكلّ يعتبر نفسه من مريديه وطلابه، والكل يرى نفسه اليوم صاحب عزاءٍ بفقده.
إن جماهيرية التسخيري في العالم لا تعرف الحدود والجغرافيا، والدين والمذهب، والنسب والقوميات. سرّ هذا الحب والمحبة والمودة يعود كنهه إلى صدقه وإيمانه العميق بأفكاره التقريبية، لأن الوحدة الشيعية والسنية لم تكن لقلقةً على لسانه، بل كان يعتقد بها بتمام أجزاء وجوده، كما قال الإمام علي بن أبي طالب (ع): “الکلمة إذا خرجت من القلب وقعت في القلب”.
خلال تنظيم رسالة التعزية الجماعية الأخيرة، وخلال تواصلي مع العلماء والمثقفين والمفكرين، واجهتني عبارةٌ مشتركةٌ واحدة كانت خير ما وصف هذا الرجل العظيم: “ندين له بالكثير الكثير”. وقد سألتهم: “ومن الذي لا يدين له؟!” كان الجميع، مخالفين ومؤيدين، يفخرون بملاقاته، وكذلك الساسة وأصحاب المناصب في العالم الإسلامي، فلطالما كانوا يتوقون للقائه، وكانوا يعتبرون التقاط “صورة تذكارية” معه امتيازاً نادراً.
لا يمكنني أن أنسى سهرة العلماء في إحدى ليالي شهر رمضان المبارك في العام 2001 خلال مأموريتي في قطر. بعد المشاركة في حفل افتتاح المستشارية الثقافية الإيرانية في الدوحة، واكبت آية الله التسخيري مع عددٍ من العلماء إلى داره، بدعوةٍ من الدكتور الشيخ علي قرة داغي، أستاذ كلية الشريعة وأمين عام اتحاد علماء المسلمين. كانت سهرةً علميةً غنية!
من بين المدعوين، كان الشيخ يوسف قرضاوي، الذي كان اسمه في العالم الإسلامي خلال تلك السنوات بارزاً جداً، وكان يكبر آية الله التسخيري بـ17 عاماً. وقد طلب منه راجياً أن يكتب له تقديماً أو مقدمةً لكتاب خواطره الضخم. كانت نبرة الشيخ القرضاوي وهو يعرض عليه طلبه، تدعو الحاضرين إلى التأمل أكثر في مقام هذا المفكر الحكيم وقيمته.
عند دخوله إلى المحافل العلمية والفكرية، كان الجميع يقف احتراماً له. وخلال الحديث، كان يجذب الكل بمنطقه واستدلاله. كان يجذب إليه القلوب بأفكاره المميزة والإصلاحية، وكان حبّ الناس له يتخطى الجغرافيا والوطن، والدين والمذهب، والقومية والنسب. من الصومعة إلى الدير، ومن الكنيسة إلى المسجد، من كاثوليك الفاتيكان إلى أرثوذوكس روسيا، ومن أرمن أشميازدين أرمينيا وجورجيا إلى أرمن إيران ولبنان الكيليك، ومن سنة الأزهر في مصر إلى زيتونة تونس وديانة إسطنبول، من الإباضيين في عمان إلى السلفيين في جدة، كان الجميع يعرف أستاذنا ويجلّه.
لم يفلح أيّ مانعٍ في هذا العالم في إيجاد الخلل في عزيمته وإرادته الصلبة في تحقيق أهدافه ومثله.. لا فيروس كورونا ولا فيروس الجهل والاستبداد والاستكبار! حتى في أيلول/سبتمبر 1999، أي قبل واحدٍ وعشرين عاماً بعد تعرض آية الله لأزمةٍ قلبية قيّدت من نشاطه، لم ينفك يعالج نفسه ويحرك جسمه على سرير المستشفى وفي النوادي الرياضية والمسابح وصالات العلاج الفيزيائي، حتى تمكن من التغلب بإرادته على الضعف والمرض بامتياز.
وبعدما كان قد فقد قوته وتوازنه الجسدي، استطاع بعد سنواتٍ من هذه الحالة أن يعود إلى التحليق بين القارات السبع، رغم الجرح الذي في جناحيه، في سماء مهمّاته الرسالية وواجباته التي يؤمن بها. حمل قلبه المريض إلى عواصم العالم، وأنشد موسيقى الوحدة بلسانه الثقيل بجماليةٍ عالية، عازفاً لحن مقاومة الفكر والثقافة، فكان بذلك درساً وعبرةً للأصدقاء والأعداء والمخالفين على حدٍ سواء.
أجل، لقد كان آية الله التسخيري، بعشقه ومحبته للرسول الأكرم (ص) وأهل بيت العصمة والطهارة، “لسان الإسلام والتشيع الناطق” و”زين” مدرسة الإمام الصادق (ع). إن رحيله المؤلم والمفجع مصداقٌ حقيقيٌّ لـ”الثلمة” التي قال الإمام الصادق إنها إذا وقعت بموت عالمٍ في الإسلام، فـ”لا شيء يسدّها أبداً”.
سلامٌ ورحمةٌ ونورٌ لروحه، وطوبى لثراه الطاهر.