أُمّة الإنجازات والأمجاد
الشيخ الدكتور أسامة شعبان
إنْ كان أهل الجاهلية كتبوا عشر قصائد من عيون الشعر (المعلّقات العشر) بماء الذهب.. فإنّ كثيرًا مما كُتب بعدُ خَلِيقٌ به الأمرُ عينُه..
ولعلّ المِفَنّ العبقري أبا الكيمياء جابر بن حيّان (مقدّم أُسُس الكيمياء الحديثة) (ت199هـ) الذي ابتكر حبر الذهب (والفضة) للمصاحف.. كان يدرك أن بعض الكتب أيضًا تستأهل أن تُكتب كذلك بالذهب الخالص..
وقد قيل: [المتدارك]
لم يَدَعْ مَنْ مَضَى للّذي قدْ غَبَرْ
فَضْلَ عِلْمٍ سِوى نقْلِهِ بالأثَرْ
والإنصاف أنه ليس كل قديم جيدًا بالمطلق.. وبالمقابل ليس كل حديث خطأ.. والعصمة الكاملة لأنبياء الله تعالى فقط. وقد جهد الآخِرون مشكورين ومأجورين (بإذن الله) في خدمة تراث الأوّلين.. ولمّا ينتهوا..
أليس العالِم يموت ويبقى كتابه يخبر عنه وعن فكره بعد موته.. وصدقة جارية له ما دام الناس ينتفعون به؟!
أليس أكثر ما في الدنيا من مخطوطات (بخط يد المؤلف أو الطالب أو الناسخ) هو بالحرف العربي؟!
ألا تستحق هذه الكنوز أن يُزال الغبار عنها وأن تخرج إلى النور؛ تحقيقًا وتدقيقًا؟!
أليس اليمن الخصيب (زبيد خصوصًا) أكثر بلد في الدنيا يضم مخطوطات.. يعاني من حرب شعواء شنعاء.. قتلت الإنسان والأرض والأدب.. وقضت على آلاف المخطوطات.. وضيّعت وتضيّع الآلاف الباقية؟!
أليست مكتباتنا ألْيَق بالمخطوطات التي تملأ متاحف الغرب (اللوفر في باريس مثلًا) وندفع مالًا لنراها؟! (وهناك من يقول: لو بقيت عندنا لرُبّما ضاعت!)
أليس العمل في المخطوطات يؤمّن آلاف الوظائف للباحثين والمحقّقين على امتداد الوطن العربي والأمة الإسلامية؟!
أليست هذه المخطوطات تندثر وتندرس يومًا بعد يوم؛ حَرْقًا وغرَقًا وضياعًا وسرقة وإهمالًا.. وبيعًا بأبخس الأثمان إلى الغربي الذي ربّما يعرف قيمتها أكثر من كثيرين من مسؤولينا والقيّمين على أمورنا؟!
أليس كثير من مكتباتنا تَحْجُر على كثير من الباحثين رؤية هذه المخطوطات، اعتدادًا بضوابط كثيرة جدًّا؟!
أليس المطلوب أن نضع موعدًا لإنهاء تحقيق كل المخطوطات العربية وطباعتها.. وأن نعتزّ بهذا الإنجاز؟!
أليست الكتب النافعة في التراث الإسلامي (وكثير منها حَبِيس المكتبات والبيوتات وخَبِيء الخزائن والمخازن) كانت سببًا في الوعي والإدراك والتربية والتعليم لأجيال الأمة سابقًا، وسببًا من أسباب انتصاراتهم وابتكاراتهم وإنجازاتهم وحضارتهم؟!
أليس الأحْرَى بنا تشجيع طلابنا في رسائل الماجستير وأطاريح الدكتوراه على ركوب موج هذا الخِضمّ؟!
أليس الأحْظَى لنا أن نَنكبَّ على هذه المخطوطات التي تستصرخنا لاستدرار جيّدها، واصطياد شاردها، واقتناص فرائدها، واكتناز خرائدها (اللؤلؤة قبل ثقبها)، والفوز بواسطة عقدها من يتيمات جواهرها، والاستفادة من قَبَس أسرارها؟!
أليس الأولون تعبوا في السفر الطويل مشيًا وركوبًا، والسهر على فتائل السُّرُج، والكتابة على العَظْم وورق الشجر، وبَرْي الأقلام، وتهيئة الحِبر وتعبئته.. وأفنوا زهرات أعمارهم، وأمضوا نفائس أوقاتهم في طلب العلم وتدوينه.. رغم العَوَز والعوائق والمنغّصات؟!
أليس محمد بن إسماعيل البخاري (ت256) أول من عمل مصنفًا مجرّدًا للحديث النبوي الصحيح، وارتحل في طلب العلم والحديث من مئات العلماء، واستمر ست عشرة سنة يجمع في “الجامع الصحيح” أكثر من سبعة آلاف حديث صحيح (فيها المكرر بتعدد الروايات) بشروط عالية، وكان يغتسل ويتوضأ قبل كتابة كل حديث فيه؟!
أليس أبو المفسّرين محمد بن جرير الطبري رحمه الله (310هـ) بقي أربعين سنة في أقدم تفسير موجود “جامع البيان في تفسير القرآن” (24 مجلدًا) (لم يخلُ من بعض القصص الإسرائيلية التي لم يتعقّبها بالنقد والتمحيص)؛ وكذلك بقي خمسًا وأربعين سنة يجمع ويؤلّف في موسوعته (15 جزءًا) الموسومة بـ “تاريخ الرسل والملوك”.. تاريخ الدنيا والإنسان النبي الأول أبي البشر والأنبياء آدم عليه السلام إلى زمان المؤلف؟!
أليس أبو الفرج عبد الرحمٰن بن الجوزي رحمه الله (597هـ) الذي بلغت مصنفاته قريب ثلاثمئة.. قد أوصى أن يُجمع بَرْي أقلامه التي يكتب بها كتبه ليسخَّن منها ماء تغسيله يوم موته، رجاء أن يغفر الله له ببركة ذلك؟!
أليس جلال الدين عبد الرحمٰن السيوطي (ت911هـ) ألّف ما يقرب من ستّمئة كتاب وكتيّب ورسالة، ولم يعمّر غير ستين سنة؟!
والمرء منا يعجَب كيف أنجزوا كل هذا؟! إنْ هي البركة في أوقاتهم، والهمة في أحوالهم.. مع أن أعمارهم كأعمارنا؟!
كما نحن مطالبون بإحياء تراثنا ودراسة أُمّات كتبنا.. فنحن معنيون ومدعوون بإلحاح ضروري في خط مُتساوِق متزامن للاعتناء والإنجاز في علوم الحاضر.. لنطير على جناح الحضارة في بَوَاكير ركائبها.. ونحن أمّة لا يليق بها إلا الإنجازت والأمجاد..
الشيخ الدكتور أسامة شعبان/ دكتور في اللغة العربية وفي الشريعة واستاذ جامعي في الجامعة اللبنانية واللبنانية الدولية.