في حداد مفكّر التقريب

في حداد مفكّر التقريب

المستشار الثقافي الإيراني في لبنان/ عباس خامه يار

كان خبراً مفجعاً ومروعاً جداً، ابتلع فجأةً كل ناشطي الساحة الدولية، سواء داخل البلاد أو خارجها. الأستاذ السيد هادي خسروشاهي الذي كان دائماً الملاذ والملجأ الفكري المقرّب بين النخب والمثقفين الإسلاميين في العالم الإسلامي منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى سنواتٍ عديدة، قضى إلى لقاء المعبود في الأول من شهر رجب المبارك، تزامناً مع ذكرى شهادة سيده وقدوته الإمام علي الهادي (ع)، فزاد من حزن الإيرانيين وأساهم وغصّتهم في هذه الأيام.

قلةٌ هم الذين لا يعرفونه من الناشطين الإسلاميين والباحثين من أهل السنة والشيعة منذ السبعينيات وحتى اليوم، والذين لا يشهدون على دوره البارز في قلب الأزمات الفكرية خلال العقود التي خلت.

من دون أيِّ نوعٍ من المبالغة والتردّد، كان خسروشاهي من مؤرخي النهضات الإسلاميَّة، ومن رواد الأنشطة الدولية في المجالات العلميّة والفكريّة في تاريخنا المعاصر.

لقد كان المرحوم من رموز التّقريب خلال نصف القرن الأخير، أي منذ زمن دار التقريب في مصر، وكان من القلّة التي أدَّت دوراً أساسياً في لقاء النخب الشيعية والسنية والإسلامية والمسيحية خلال تلك الحقبة، من خلال الفكر والمعرفة والاعتدال، وكانت له علاقاتٌ واسعة مع الدول العربية، من مثل مصر والجزائر وشبه الجزيرة العربية، ومع تركيا وأوروبا. كما أنَّه كان كاتباً ومترجماً للعديد من كتب وأفكار حركة الإخوان المسلمين ومفكّرين مسلمين آخرين من العصر الحديث إلى الفارسية.

كان الأستاذ خسروشاهي قبل الثورة مسؤول القسم الدولي في دار التبليغ في قم. وخلال تلك السنوات، كانت له رحلاتٌ مهمةٌ إلى الخارج، فكان يشارك في المجامع الفكرية والمؤتمرات الفكرية، من مثل “ملتقى الفكر الإسلاميّ” في الجزائر بشكلٍ مستمر، متحدثاً عن كبريات الأفكار، ثم كان له بعد ذلك دورٌ إضافيّ في الحقل الديبلوماسي، وفي مقام بلادنا التمثيلي في الفاتيكان والقاهرة.

هذا الباحث المخلص استطاع أن يحمل، بحكمةٍ، الأفكار الموحّدة للقادة وكبار أعلام التشيّع، من أمثال السيد جمال الدين الأسدآبادي، آية الله البروجردي، آية الله محمد تقي القمي، الإمام الخميني، والإمام الخامنئي، كما استطاع أن يكرّر ويحلّل ويفكّك فكر الباحثين والمفكرين السنّة، من مثل المرحوم حسن البنا، سيد قطب، أبو الأعلى المودودي، وإقبال اللاهوري، منشئاً بمكاتباته وعلاقاته جسر تواصلٍ محكماً بين القادة الفكريين، الدينيين والمذهبيين، من الشيعة والسنة.

في هذا المسير، لم يهدأ له بال. كان ثابت الخطى، شجاعاً، وفي حالةٍ متواصلة من المثابرة العلمية الخطابية والميدانية. معرفته الدقيقة بجذور انحطاط المجتمعات الإسلامية، وآفات الجهل المدمرة، وعوامل التفرقة الأصلية بين المسلمين، وإيمانه العميق بوحدة العالم الإسلامي، كلّ ذلك صنع منه شخصيةً عالميةً، وضاعف من شعبيّته إلى ما بعد الحدود المذهبية والجغرافية.

كما أن كتابة عشرات المؤلّفات العلمية والبحثية، ونشر عشرات المقالات والمذكّرات باللغات الفارسية والعربية والإنجليزية، أغنى اليوم المكتبات ومراكز مطالعات العالم الإسلاميّ، وجعلت أبحاثها مرجعاً للباحثين.

إنَّ اعتزازي بمعرفة الأستاذ يعود إلى عهد الشباب ومنتصف العقد الثامن من القرن الماضي، إذ كان قد أسَّس، إلى جانب فعاليته التبليغيّة الخارجيّة، مركز نشر “رسالت”، إلى جوار مكتبة آية الله المرعشي النجفي في مدينة قم المقدسة. وقد كنت طالباً أتردَّد إلى تلك المكتبة آنذاك.

لقد أسَّس المرحوم خسروشاهي هذه الدار بشكل أكثر تميزاً من الطراز المعتاد في تلك الحقبة، ما يدلّ على رؤيته للمستقبل وطبعه التجدّدي.

خسروشاهي كان دائماً الملاذ الفكري المقرّب بين النخب والمثقفين الإسلاميين في العالم الإسلامي

بعد انتصار الثورة الإسلاميَّة، ازدادت معرفتي به في مجال الفعاليات الدّوليّة، فكان هذا الفاضل الحامي والمشجّع لكتاباتي، واعتبر كتابي “إيران والإخوان المسلمون.. عوامل الالتقاء والافتراق” مرجعاً أساسياً في دراسة العلاقات بين إيران والإخوان، حيث إنني كنت، وما زلت، أعتزّ برأيه العزيز.

خلال سنوات مسؤولياتي الثقافية، كنت أسعى إلى الإفادة من هذا الأستاذ الحكيم والباحث المقتدر، فخلال سلسلة اجتماعات خبراء النيابة الدولية في منظمة الثقافة والعلاقات الإسلامية، بحث بين جمعٍ من زملائي تطورات السنوات الأخيرة في الدول العربية.

وقبل ذلك بعدة شهور، اقترحتُ على السيدة بروجردي، رئيسة مركز التوثيق والمكتبة الوطنية الإيرانية، تكريم الأستاذ في حياته، فرحَّبت بالأمر كثيراً.

وعلى الرغم من المساعي والمتابعات المتواصلة، لم نوفّق وزملائي، ومنهم صديقنا المشترك جناب السيد جلال ميراقايي، في إقناعه، إذ عبّر الأستاذ، خلال شكره، عن رفضه أموراً كهذه سابقاً.

لعلَّ سبب عدم رغبته في ذلك، كان التعب أو المرض أو عتبه على الزمن!

ربما.. لست أدري!

وربما كانت تكفيه رغبة البحث والدراسة، ما جذبه إلى ركن مكتبته في قم، مسقط رأسه العلمي، فوجد فيه مكاناً آمناً وجسراً مطمئناً للعبور والسكن في منزله الأبدي.

لست أدري.. ربما!

الرحمة لروحه… والعزة لذكراه!

 

شاهد أيضاً

محمد سعيد الخنسا

دمعة فراق

دمعة فراق محمد سعيد الخنسا ودع لبنان والعالم الإسلامي عالماً جليلاً عاملاً عاملياً مجاهداً حجة …