لبنان “التجربة المعجزة”: حياة واحدة في وطن واحد!
الدكتور نوفل يوسف نوفل*
منذ أن تأسس الكيان اللبنانّي، واللبنانيون حيارى يتساءلون: من نحن، أين نحن، والى اين نحن ؟ فيأتيهم الجواب، من طواحين لا تسمع بعضها البعض، ومن عداوات لا تقبل بعضها البعض، ومن عورات لا تستر بعضها البعض.
ومن ثمّ، وعلى طريقة الحوار بين الأعمى والأطرش، تتمّ التسوية باسم العيش المشترك .
هذا العيش الذي لا ينتج الاّ حلولاً مؤقتة:
لأنه كالدواء المسكّن، وليس “انتيبيوتيك ” يزيل الداء،او مبضعاً يستأصل العلّة، ودليلنا على ذلك، سلسلة التسويات التي تريح فترة ولكنها لا تشفي نهائياً:
عام 1943 كانت تسوية الميثاق الوطني.
عام 1958 كانت تسوية لا غالب ولا مغلوب.
عام 1969 كانت تسوية اتفاق القاهرة.
عام 1989 كانت تسوية وثيقة الوفاق الوطني- اتفاق الطائف.
عام 2008 كانت التسوية – المسخ – اتفاق الدوحة.
البقية تأتي
اليس كلّ تسوية هي “هدنة ” باسم العيش المشترك، بين حربين باسم ” الأخوة الأعداء”: فأيّ عيش مشترك هو هذا الذي لا يبني الاّ قبوراً للشهداء ؟! ولا يرفع الاّ جبالاً من الجماجم ؟!
عيش غير مشترك!
ايّ عيش مشترك هو هذا الذي تهدر فيه أنهار من الدماء ، وتتكوّن منه بحار من الدموع ؟
ايّ عيش مشترك، والمصير بصورة متواصلة على المحكّ ؟ والبلد دائماً على حافة الهاوية ؟
ايّ عيش مشترك، وأصغر عود كبريت يمكن أن يشعل بركاناً ؟
صراع دائم، تعدّ دائم، خوف دائم وتخويف مستمر ؟!
اذا ملأ الغيم الأسود سماء الوطن ،
تساءل البعض: لماذا لا يرحل المسيحيون الى روديسيا؟ وهذا ماحصل !
وتساءل البعض الآخر : لماذا لا يذهب المسلمون الى مكّة، وهذا ما حصل !
اما اذا صفا الجوّ ، فيصبح الجميع أشبه بأوركسترا واحدة يردّدون بصوت واحد : المشاركة، المناصفة، وقّفنا العد ّ؟!
فهل يعقل أن يظلّ المسيحي بنظر المسلم ، مستعمراً جاء مع احدى الحملات الصليبية بقيادة أحدهم، ريكاردوس قلب الأسد مثلاً ؟
وهل يعقل أن يظلّ المسلم بنظر المسيحي، من أنصار صلاح الدين الذي هزم الصليبيين ؟ او من رجال طارق بن الوليد البربريّ الذي وحّد الأندلس ؟
أليس من عاقل يعلّم الجميع أن كلّ اللبنانيين هم: عربيّو الهوية والانتماء، وأهل هذه الأرض المباركة في هذا الشرق المقّدس ؟
أليس من متسامح يذكّر الجميع، بأننا أبناء “الكتاب” الذي يعلّمنا بأن:
نؤمن باله واحد،لا اله الاّ الله، البسملة عندنا واحدة، وكذلك الحمدلة ؟!
أليس من عبقريّ، ينشّط ذاكرة الجميع بأنّ مقدمة الدستور تنصّ أنّ: “لبنان وطن نهائيّ لجميع أبنائه ” ؟!
ترى كيف استطاعت شعوب سوداء وبيضاء، ملوّنة ومزركشة، أصليّة ومهاجرة أن تجعل من ولاياتها المتناحرة، المتقاتلة: الولايات الأميريكية المتحدة ؟ ولم تسمع هذه الشعوب يوماً “بالعيش المشترك ” ؟
هل التعايش المشترك، هو من أنشأ دولة سويسرا الموحدة ؟ هذه الدولة التي تضمّ مجموعات من القوميات نفسها التي تناحرت في حربين عالميتين؟ كيف استطاع المان سويسرا وفرنسيّوها وطليانها، أن يتوحدّوا في كيان متماسك من خلال دولة موحدة ؟
لقد بات معظم دول العالم اليوم، خليط انساب واعراق، وموجات تهجير وهجرة، ومع ذلك معظم كياناتها متماسكة ونظامها موحّد، ولا أثر فيها لمعزوفة “العيش المشترك” .
لبنان تجرية معجزة
لأنّ التعايش هو الاعتراف بالآخر والقبول بالآخر ، ولأنني لا أعترف “بأنا والآخر “، فانا لا اعترف بالتالي بالتعايش المشترك :
فهل الانسان والمرض المزمن واحد ؟ انهما نقيضان يتعايشان. المرض يفتك بالانسان، والانسان يتصدّى للمرض ؟ والاثنان يرغبان بانتصار الواحد على الآخر . هل هذا هو التعايش الذي نريده ؟
الانسان والروزنامة يتعايشان، وكلّما سلخ الانسان ورقة من وريقاتها، انتزعت هي يوماً من حياته، والنتيجة: تنتهي اوراق الروزنامة، وتنتهي ايام الانسان! فهل هذا هو التعايش الذي نريده ؟
لبنان هذا البلد الصغير، قام من أجل أن يتّسع للجميع ، فلنجعله “التجربة المعجزة”، لا “التسوية المخزية “؟!
انطلاقاً من رؤية مشتركة هدفها، بناء الدولة المدنية الديمقراطية، وفق عقد اجتماعيّ مبنيّ على فكرة المواطنة ، مستلهمين شرعة حقوق الانسان ، ومكرّسين حريّة المعتقد والدين ، رافعين شعار ” الحرية – التسامح – المساواة ؟ !
لا لازدواجية اللسانين والوجهين
من اجل هذه “الدولة “، اناشدكم التخلّي عن ازدواجية الوجهين واللسانين، هذه الازدواجية القائمة على معادلة قاتلة: نضمر غير ما نعلن، ونعلن غير ما نضمر !! وحدها الحقيقة تتمتّع بوجه واحد ولسان واحد !
فلنعتمدها!
انطلاقاً من اعتمادنا على “حصريّة الحقيقة “، ادعوكم ان تعدموا لبنان التعايش المشترك، لبنان العيش المشترك، لبنان التكاذب المشترك، لا نريد أن نتعايش معاً بعد اليوم …!!
ارجوكم اعدموا هذا “اللبنان” وادفنوه تحت سابع أرض ،وبعد الانتهاء من مراسم الدفن :
تعالوا لنحيا معاً، حياة واحدة، في وطن واحد، ليحقّ لنا أن نردّد بكل شرّف : كلنا للوطن،ليحيا لبنان.
* رئيس المجلس الثقافي في جبيل