الدكتور اسد شرف الدين
الدكتور اسد شرف الدين

مبادئ الأم أم المبادئ

مبادئ الأم أم المبادئ

 الدكتور اسد شرف الدين

تردد الى عيادتي احد المرضى المصابين بعلة مزمنة في عينيه وكنت اجد في هذا الانسان الفة ومودة وانفة وحماسا وطنيا يفوق كل وصف اذا ان الاحداث المتسارعة في الوطن، تنتقل الى كل مكان بالاحداق والقسمات، فكنت عندما يسمح لي الوقت، احادثه في شؤون الساعة والوطن خاصة وقد لاحظت أنه من اصحاب الرأي السديد والحجة المنطقية، واستطرادا عرفت انه ينتسب الى احد الاحزاب الوطنية – القومية ولفتني بشكل خاص تأثيره بمعلمه في العمل الوطني والحزبي الذي اعطى حياته دفاعاً عن عقيده قال انها تساوي كل وجوده،فقد رافقه في شبابه ونضاله الى ان استشهد او قدم نفسه للشهادة. كان عندما يتحدث عن زعيمه ينفعل ليقول ان زعيمه كان يعمل لقناعات حصنها بالحجج ليواجه صعوبات يتجاوزها، فتزيده صلابة فلا يأبه للمال ولا يسعى للجاه، حسبه انه يسعى لخدمة وطنه وامته مهما كان الثمن فكان ان دفع حياته غير هيّاب.

لاحظت في هذا الرجل تعلقاً شديداً بزعيمه، وكان في كل مره يحدثني فيها عنه ينتصب شارباه وشعره القليل في قمة رأسه وتفيض الكلمات على شفتيه معطرة، اخاذة،عنيفة، بالواقع والادلة…

خطر لي في احدى المرات ان اسأله كيف ولماذا تعلق بمعلمه وحزبه فرد بكثير من التشويق فقال:

انني يا حضرة الحكيم، انتمي الى عائلة فقيرة، امية، وعشيرة من الفلاحين في جبلنا لا نعرف عن العالم وحدوده سوى حدود العشيرة وأبعاد المراعي . عندما بلغت الثانية عشرة من عمري، تركت المدرسة لارعى الاغنام في القرية. ولكنني بعد عدة سنوات من ذلك بدأت بالتردد على بيت متواضع في البلدة يجتمع فيه بعض الشبان من ابناء الضيعة، حيث يتحلقون حول رجل جاء من بعيد ينشر علينا علماً وفكراً ومبادئ جديدة تنير عقولنا وتغرس في نفوسنا الروح الوطنية، وتنقلنا لابعد من حدود العشيرة والمراعي، وتطهر نفوسنا من الأحقاد المذهبية، وتكسر الحدود بيننا وبين أخوتنا في المذاهب الأخرى ضمن القرية الواحدة، لنشعر أننا جميعاً أخوة ورفقاء في وطن حر وسيد .

تكررت زياراتي الى  هذا البيت مرتين في الأسبوع حتى أصبحنا مدمنين على هذه اللقاءات الشيقة خاصة عندما إنضم إلينا شبان آخرون ، يأتون من ضيعة مجاورة كان بيننا وبينهم عراك وأحقاد، وقلما ينقضي عام من دون نزاعات وثارات تتحكم فينا وبعقولنا، نلقنها حتى للصغار منا. أجل، لقد أصبح هؤلاء الشباب أصحابنا ورفاقنا ولو كره المُسنّون منا، فنحن أبناء هذا الجيل الجديد بدأنا نطوي الماضي بعد أن جمعتنا أفكار واحدة، فإكتسبنا العلم والوعي الوطني الذي لم يكن مألوفاً في الماضي، حمله إلينا هذا المعلم الذي عرفت أسمه بعد مدة طويلة، وعرفت أنه من إحدى القرى اللبنانية البعيدة التي لم أسمع بها من قبل.

أصبحت على جانب كبير من الوعي، وأكتسبت صداقات ومعارف كثيرة، فشعرت أن الدماء التي في عروقي هي ملك الأمة ونذرت نفسي لخدمة عقيدة أحس أنني من دونها لا أساوي شيئاً. مرت مدة طويلة على هذه الحلقات التي كنت أتابعها وكنت بعد لم أصارح أهلي بما إكتسبت، وما يعتمر في صدري الى أن حصلت حادثة كان لا بد أن تظهر مدى تأثري بالأفكار الجديدة واليك الحادثة ، تابع يقول:

في أحد الأيام الشديدة القيظ، طرق باب بيتنا صياد يتصبب عرقاً، منهك القوى ، يحمل على جانبيه طرائده الكثيرة وطلب إلينا جرعة من الماء ، فخفت أمي وأعطته إبريق الفخار المبرد في العراء طوال الليل الفائت، فشرب حتى إرتوى وشكر وإنصرف. وما إن بعد عن ناظرينا حتى أخذت أنا بدوري الإبريق لأشرب، فخطفته مني والدتي ورمته على الأرض فإنكسر، فسألتها عن الحكمة في تصرفها فقالت” إنه من دين آخر مغاير لديننا ” إهتدت الى معرفة ذلك من خلال سلسال معّلق في عنقه. فصعقت لهذا المسلك وهذا المنطق، واخذت ارعد في وجهها غضباً وشرعت افيض عليها بما تعلمت من محضرات الامس دوروساً في المناقب والاخلاق والسلوك والاداب والوطنية.

وبعد لحظات من صمتها لامت نفسها لانها اقتنعت بخطئها، فقبلتني باعتزاز وأبت الا ان تجعلني اقسم يمين الحزب، وكذلك فعل اخوتي وماتت وهي تردد (تحيا سوريا).

اجل، لقد ادهشني هذا الرجل بحجته ومنطقه واكبرت هذه المبادئ التي حولته من راع امي الى مواطن عليم، وشعلة وطنيه. وقلت في نفسي ” اللهم انصر هذه المبادئ واكثر من هذه الامهات”.

*جراح في طب العيون وصاحب مستشفى العيون اللبناني 

  • نشر في جريدة الديار في 28/10/1992     

 

 

 

شاهد أيضاً

محمد سعيد الخنسا

دمعة فراق

دمعة فراق محمد سعيد الخنسا ودع لبنان والعالم الإسلامي عالماً جليلاً عاملاً عاملياً مجاهداً حجة …