تكريم الشاعر الإيرانيّ سعدي الشيرازيّ: تفاعل الأدبين العربيّ والفارسيّ
عباس خامه يار/المستشار الثقافي للجمهورية الإسلامية الإيرانية في لبنان ــ بيروت.
بلغ العلى بكماله كشف الدجى بجماله
حسنت جميع خصاله صلّوا عليه وآله
في زمن الكورونا وتداعياته الجسيمة على الإنسان والمجتمع، وبعد أن أثقل العالم بأثقال هذه الجائحة المميتة، وددتُ أن أغوص في بحور الأدب وتجلياته على المستوى الإنساني، واخترت لذلك ومضات من تفاعل الأدبين العربي والفارسي، ولم أجد أفضل من هذين البيتين العربيين الفصيحين والبليغين لشاعر فارسي غير عربي اللسان، لأبدأ بالحديث وأهنئ القرّاء العرب بمناسبة يوم الشاعر الكبير، يوم سعدي الشيرازي، وذلك من خلال إطلالة سريعة على الشعر والأدب الفارسي لكونه صورة مهمّة لحضارة المجتمعات، وبالتركيز على الجانب الادبي يظهر مدى التلاحم والتبادل بين اللغتين الفارسية والعربية وما أنتجه من عطاء، بين العرب والفرس.
نعم، إن هذه الأبيات هي للشيخ مشرف الدين بن مصلح الدين سعدي الشيرازي الملّقب بـ «أفصح المتكلمين«، والذي يعدّ من احد العمالقة الثلاثة او الخمسة في الأدب الفارسي على مرّ العصور، وكما انه ومن خلال أشعاره العربية وقدرته وابداعه في النظم والنثر وبما اقتبسه من القرآن والحديث والادب العربي، يعتبر أحد النماذج الباهرة في التفاعل بين ثقافتين ولغتين في ظلّ الحضارة الإسلامية بالذات.
وإن كانت الصلات بين اللغتين العربية والفارسية، صلات قديمة، ترجع الى ما قبل الإسلام وذلك بحكم الجغرافيا والجوار، ووقوع بعض المناطق العربية تحت الحكم الساساني، والتقارب بين الشعبين العربي والفارسي، اضافة الى الصلات التجارية1، إلاّ أن التفاعل الجاد قد بدأ بشكل جليّ مع الفتح الإسلامي لبلاد فارس عام 21 للهجرة واعتناق الإيرانيين الإسلام طواعية وبشوق ولهفة ودخولهم الإسلام افواجاً افواجاً، بسبب الإخلاص للدّين الجديد وتقديسه والدّفاع عنه اولاً، وبما تتمتع به لغة هذا الدين من خصائص جماليّة شعرية وفن لغوي ساحر ثانيا، وصعوبة الخط البهلوي وتعقيده من الناحية الثالثة، جعل الإيرانيين يتهافتون لتعلّم اللغة العربية وكتابة الفارسية بخطه إضافة الى الاجتهاد والتعّمق فيه.
وهذا ما ذهب إليه ابو منصور الثعالبي النيشابوري في كتابه «فقه اللغة العربية« إنّ اللغة العربية نزل بها افضل الكتب على افضل العرب والعجم، على من هداه الله للإسلام، وشرح صدره للايمان، إن العربية هي خير اللغات، والإقبال على تعلّمها من الدين، فهي مفتاح التفقه فيه، واداة العلم وسبب اصلاح المعاش والمعاد، ولو لم يكن التبّحر فيها إلّا قوة اليقين في معرفة إعجاز القرآن وإثبات النبوة لكفى بها فضلاً، وبهذه الحفاوة استقبل الإيرانيون اللغة العربية حيث انتشرت وبسرعة منقطعة النظير، في كل أنحاء بلاد فارس، واصبحت لغة العلم والادب ولغة الإدارة والحكم، فغدت لغة عامة الناس ولاسيّما الكتّاب والمثقفين.
اما اللغة الفارسية الحديثة او الفارسية الدرية، والتي يتكلم بها الإيرانيون في عصرنا الرّاهن، هي في الواقع فارسية العهد الإسلامي، والتي نشأت في كنف الإسلام وتأثّرت به وحملت الكثير من مفرداته ومصطلحاته، بعد إقصاء الفارسية البهلوية1 المعقدة، واول ما كتب بهذه الفارسية كان حول تعاليم أصول الإسلام وأحكام الشريعة وتفسير القرآن الكريم، وان أول من كتب بهذه اللغة هو البلعمي مترجم تاريخ الطبري، وأول من كتب الشعر بها هو الرودكي والدقيقي والفردوسي والمنوجهري وناصر خسرو.
لقد اكتسبت الفارسية الهوية الثقافية الإسلامية خلال العقود الاولى من استنارة بلاد فارس بالإسلام، وبدأت تتجلّى الثقافة الفارسية بالصبغة الإسلامية، وقامت أسس التعليم على الادب العربي والدين الإسلامي، وكما ان العربية اغنت اللغة الفارسية اغناءً كثيراً مما جعلها قادرة على إنشاء أدب منفتح وخصوصا في الشعر، فقد بلغ الشعر الفارسي اوج جماله وروعته في اواخر القرون الوسطى، وسلكت الفارسية الجديدة سلوكا كان يأخذ بزمامه جماعة من الفرس المسلمين الماهرين بالعربية قبل ان يدخلوا حلبة الادب الفارسي الجديد 1.
واستخدم الإيرانيون الكثير من المفردات والتراكيب العربية، مما زاد في إغناء الدريّة الفارسية بالمفردات العربية، وقد قلّد الشعراء الإيرانيون الخيال العربي في قصائدهم، خاصة في قصائد المدح والغناء واستخدموا بحور الشعر العربي نفسها، خاصّة بحور الرجز والمتقارب وغنّوا على الوزن الرباعي «دو بيت«، ونقلوا صوراً من البلاغة العربية وتراكيبها، اضافة الى القواعد العربية كجمع المذكر السالم وجمع التكسير مع انها خلاف القاعدة الفارسية، وكذلك علامة التأنيث لبعض الصفات، والتنوين وصيغة المثنى، ومطابقة الصفة للموصوف وتقديم الفعل في الجملة احياناً.
إنّ التأثّر بالعربية دفع بعض الإيرانيين القدماء الى كتابة مؤلفاتهم بالعربية ومن هؤلاء: الصاحب بن عبّاد ( ت 385 هـ) من مدينة طالقان الإيرانية، وأصبح وزيراً لمؤيد الدولة البويهي، والذي الّف كتبه كلّها بالعربية، ومن ثمّ اخوه فخر الدولة، ومن آثاره كتاب « المحيط في اللغة«.
ــ بديع الزمان الهمداني (ت 398 هـ)، ولد في همدان وانتقل الى خراسان وجرجان، له بالعربية المقامات«والرسائل
ــ إبن مسكويه (ت 421 هـ)، مفكّر وأديب وكان ذا نفوذ عظيم في البلاط البويهي، له « تجارب الامم« و«تهذيب الاخلاق«.
ــ ابو ريحان البيروني (ت 440 هـ )، عالم إيراني شهير برز في مختلف العلوم والتاريخ والادب ومن مؤلفاته، «الآثار الباقية من القرون الخالية«و«القانون المسعودي في الهيئة والنجوم«.
ـــ ابن سينا (ت 428 هـ) من مشاهيرا إيران ومفاخرها، ولد في بخارا وتوفي في همدان، برع في الطبّ والنجوم والرياضيات والحكمة والمنطق ومن مؤلفاته: «القانون في الطبّ« و«الشفاء«و«والاشارات والتنبيهات«و«النجاة«. حتى أنّه كانت تقام في محضره محافل المناظرات والتدارس باللغة العربية. يقول عبد الوهاب عزّام في هذا المجال: «وبالفتح صارت لغة القرآن لغة الدولة والعلم والادب في إيران. يستعملها العربي والعجمي في علوم الدين وغيرها… وصارت اللغة العربية كذلك لغة التخاطب بين المثقفين«1.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، ومن أجل ان ندرك مدى القاعدة التي احتلتها اللغة العربية في بلاد فارس، نشير الى المناظرة الادبية التي جرت بين ابو بكر الخوارزمي وبديع الزمان الهمداني في مدينة نيشابور، وبحضور المئات من عامة الناس، الذين اجتمعوا بين مؤيد ومخالف وحيث إن المناظرة جرت باللغة العربية وبمستوىً أدبي راقٍ، الأمر الذي يدلّ على ان هذه اللغة كانت سائدة ومفهومة في الوسط الشعبي الإيراني 2.
وينقل لنا التاريخ صوراً جميلة عن التواصل الثقافي، حيث ينقل الجاحظ صورةً لمجلس اجتمع فيه العرب والفرس في أحد مساجد البصرة، وتصدّر المجلس واعظ فارسي وهو موسى بن سيّار الاسواري، حيث يصفه الجاحظ: «وكان من أعاجيب الدنيا، كانت فصاحته بالفارسية في وزن فصاحته بالعربية، وكان يجلس في مجلسه المشهور به، فتقعد العرب عن يمينه والفرس عن يساره، فيقرأ الآية من كتاب الله ويفسّرها للعرب بالعربية، ثمّ يحوّل وجهه الى الفرس فيفسّرها لهم بالفارسيّة، فلا يدري بأي لسان هو ابين«.
في مقابل ما أخذه الإيرانيون من اللغة العربية، قدّموا لها الكثير في مجال اللغة والثقافة، حيث دخلت مفردات فارسية الى العربية منذ العصر الجاهلي، وتعرّبت واندمجت بجوهر اللغة العربية بحيث أمكن ورود بعضها في القرآن الكريم4.
وعند ازدهار الثقافة الإسلامية في العصر العباسي، جرت أكبر عملية تفاعل حضاري وحركة لغوية كبرى بينهما، ادّت الى دخول كلمات فارسية كثيرة في اللغة العربية الى حدّ اوجدت باباً مهمّاً فيها، وهو باب التعريب والمعرّبات، وبدأت موجة نقل الآثار الفارسية الى العربية، حيث لعبت حركة الترجمة والتعريب دوراً هامّاً في تقريب الثقافتين، وجنّد الإيرانيون كلّ طاقاتهم لوضع مؤلفاتهم في متناول يد العرب والمسلمين. فكانت هناك على سبيل المثال: آثاراً كالحكم والامثال والمقامات، وأخرى كقصة اسكندر، وكتاب الصور وقصة بهرام جوبين وقصة رستم واسفنديار، وقصص على لسان الحيوان، ومن أشهرها كتاب «كليلة ودمنة«وكتاب «التاج«و«خداينامه (سِيَر ملوك الفرس)«والذي نقله ابن المقّفع الى العربية، حيث يعتبر من اشهر المترجمين في تلك الحقبة، بسبب اسلوبه الادبي الرائع وسهولة كلامه ومعرفته الكاملة بالادبين، اضافة الى آل نوبخت المنجّم، وولديه موسى بن خالد ويوسف بن خالد والحسن بن سهل المنجّم، وجبلة بن سالم والبلاذري، وغيرهم الكثير من العلماء الذين كان لهم دور بارز في هذا المجال لنشر تعاليم الإسلام وترويجها. فكان العنصر الفارسي في كل هذه المسيرة يكرّس اللغة العربية التي انغرست في شعور كلّ مسلم باعتبارها جزءًا لا ينفصل عن الإسلام.
وقد بلغ عدد الكتب التي نُقلت من الفارسية الى العربية حتى القرن الرابع الهجري 70 كتابا، كما جاء في كتاب « الفهرست« لابن النديم، واورد منها جرجي زيدان في كتابه «تاريخ التمدن الإسلامي« عشرون كتاباً.
فكتاب «المعرّب من الكلام الأعجمي« لابي منصور الجواليقي مملوء بالمعرّبات، ويحتوي على (700) مفردة اكثرها فارسية، وهو اول من وضع كتاباً في تقسيم المفردات التي دخلت العربية ومن بينها الالفاظ الفارسية (وهو من مفكري القرن السادس الهجري)، وكتاب «شفاء الغليل« لشيخ الإسلام شهاب الدين الخفاجي الكوفي، وكتاب «ادى شير« الذي كمّل حلقة المعرّبات، حيث يبدي ادى شير وهو رئيس اساقفة الكنائس الكلدانية في كتابه «الالفاظ الفارسية المعرّبة« دهشته لنفوذ الفارسية الى هذا الحد في اللغة العربية، رغم ان الفارسية من فصيلة اللغات الآرية، في حين لم تؤثر في العربية لغات سامية من فصيلة العربية نفسها كالسريانية والرومية والقبطية والحبشية، والارتباط اللغوي كما يُعرف بين اللغات ذات الاصل الواحد، اسهل من اللغات ذات الاصول البعيدة 1. وظهر في عام 1968 معجم بالمفردات المعربّة بعنوان «واژه هاي فارسى در عربى« اي المفردات الفارسية في العربية لمحمد علي الشوشتري ويُعَد اوسع معجم ظهر حتى اليوم في هذا المضمار ويضمّ ما يربو على 2800 مفردة.
وكتاب «العربية« ليوهان فك، مملوء بالكلمات المولَدة والدخيلة، وأكثره الفاظ فارسية في شتّى المجالات1، وهذه النهضة التعريبية العلمية والادبية، اغنت العربية وطوّرتها كثيراً عندما رأى العرب انفسهم امام علوم جديدة وافكار تطرق مسامعهم لأول مرّة، وانماط من نظم اجتماعية لم يألفوها، وظواهر متعددة في مختلف المجالات ليس لها مرادف باللغة العربية.
اهتّم الفرس بالدراسات اللغوية العربية أيضاً حتى كادت اسماؤهم تطغى على اللغويين والنحاة العرب، كما نرى هذا في أشهر نحوي في اللغة العربية وهو سيبويه، فضلاً عن لغويين ونحاة آخرين من أصول إيرانية، كالكسائي والسجستاني والسيرافي وابن درستويه وابن علي الفارسي والسرخسي والكرماني والرازي وابن خالويه والاخفش وابي عبيدة معمر بن المثنى، والقرّاء السبعة الذين تسلسل فيهم السند الى الأئمة السبعة أكثرهم من اصل فارسي1.
واستمرّت اللغة الفارسية جنباً الى جنب مع اللغة العربية تساهم في نشر الثقافة الإسلامية وإغنائها عن طريق تأليف وترجمة مئات الكتب في مجاات العلوم القرآنية والكلامية والأصول والفقه والعرفان والتصوّف والتاريخ والجغرافيا والنجوم والرياضيات والصرف والنحو، ولم تتقهقر اللغة الفارسية امام اكتساح اللغة العربية كما حدث مثلا للقبطية والسريانية والآشورية وغيرها من اللغات، بل جاءت سنداً وعوناً للعربية، تقف الى جانبها وتغذيها بما تتوصل اليه من مستجدات علمية وفقهية، واول من كتب التاريخ العربي كان إيرانياً وهو محمد بن جرير الطبري، وان اول دائرة معارف للآداب العربية هو كتاب «الاغاني« الّفه «ابو الفرج الاصفهاني«. وإن اولى التفاسير القرآنية جاءت من علماء إيرانيين من امثال الإمام فخر الدين الرازي وجار الله محمود الزمخشري والطبرسي وابن الفتح الرازي والامام اعظم ابي فضل المبيدي وفتح الله الكاشاني وانتهاءً بالعلاّمة محمد حسين الطباطبائي.
وكان للمفكرين والعلماء الإيرانيين سهم وافر من مؤلفات العرفان الإسلامي، كذلك علم الكلام والفلسفة الإسلامية، ومن بين تلك الاسماء اللامعة، الفارابي وابن سينا والفخر الرازي والخواجة نصر الدين الطوسي والشيخ البهائي وغيره.
والعديد من كبار الرواة وناقلي الاحاديث الشريفة هم من الإيرانيين خصوصاً مَن جَمَع الاحاديث وبوّبها، منها كتب حديث أهل السنة، أي صحاح السنّة والكتب الأصولية الشيعية الاربعة او الاصول الاربعة.
وكان الديوان العربي حتى عهد الحجاج بن يوسف الثقفي، يُدَون باللغة الفارسية والذي أمر بنقله الى العربية2، حتى في مجال الخط العربي، الذي لم تعرف العربية حتى نهاية العصر الأموي غير النوع النسخي الذي كان يستعمل غالباً في كتابة الرسائل، والكوفي في كتابة المصاحف وتزيين المساجد والمسكوكات، قفد نوّعها الإيرانيون في العصر العباسي عندما دخل الكتّاب الإيرانيون أجهزة الدولة، حيث ظهر خطّاطون كبار، حيث إنّ إبراهيم الشجري من كتاب اوائل القرن الثاني، هو من اوجد قلم الثلثين، واوجد اخوه يوسف القلم الرئاسي او قلم التوقيع.
أما تلميذه إبراهيم الأحول، فقد اخترع خطوطاً عدة، كالنسخ والثلث والمسلسل والرقاع وكمّل الخط العربي على يد تلميذي الأحول، وهما محمد بن مقلة (ت 328 هـ) وأخوه الحسن بن مقلة (ت 338 هـ) وجميعهم من اصل إيراني.
وكانت جامعة نيشابور تغذي الخلافة العباسية باساتذتها في الطب وخرّيجيها، وقد كانت قائمة منذ العهد الساساني حتى اواسط العهد العباسي، والكتب زاخرة بأسماء أطبّائها2.
وبهذا قد ساهمت الثقافة الفارسية بأصولها وتاريخها وحضارتها العريقة والخصبة في تشييد عمارة الفكر الإسلامي وأمدّته بعوامل الازدهار والتآلق وفي كافة المجالات ولا سيما في المجال الادبي، وقد قام علماء وادباء مثقفون عرب بدورهم بترجمة الكتب الفارسية نثراً وشعراً، وكتبوا عن الفارسية وآدابها2، كجلستان سعدي (روض الزهور) و«الشاهنامه« ملحمة الفردوسي وشاعر العرفان والتصوف «لسان الغيب« حافظ الشيرازي، وجلال الدين الرومي وترجم من قصصه في المثنوي، وتناولوا في بحوثهم عن عمر الخيام ورباعياته ونظامي كنجوي وجامي والشيخ فريد الدين العطار النيشابوري، فكانت القاهرة ودمشق وبغداد مراكز لنشر الثقافة الفارسية وتعريبها.
فالأدب العربي لم يتأثّر حتى أوائل عصر النهضة الحديثة بحضارة او بفكر بقدر ما تأثّر بالفكر الفارسي، ولم يخدم اللغة العربية احدٌ كما خدمها الفرس، كما يقول الشهيد مرتضى مطهري.
وهذا التطور الذي نقل أدب اللغة العربية من وصفه بأدب عربي الى كونه أدباً إسلاميّاً، ما كان ليحدث لولا هذا الخصب والثراء الذي امدّته به هذه الحضارة. ولولا هذا التزاوج بين المزاجين الادبيين للشعبين العربي والفارسي تحت لواء الإسلام في وثبته الظافرة كما جاء في ضحى الإسلام.
هذا التأثير اللغوي والذي بدأت أهميته منذ القرن الثاني للهجري خاصة، وازداد بعد القرن الثالث واستمرّ بضعة قرون، حيث أُضعِف منذ أواسط القرن السابع ليعود بقوّة في القرن الماضي، عندما بدأ الإيرانيون نهضتهم الحديثة، حيث واجهتها حملة إبادة في العهد البهلوي تحت شعار تطهير اللغة الفارسية من المصطلحات العربية والغربية، جاءت الجمهورية الإسلامية لتُصحح الخلل مرّة اخرى، وتجد في توسيع نطاق هذه الدائرة، وتفرض تعليم العربية وتضعها في الدستور ومناهجها في مدارسها وجامعاتها، واوجدت جيلاً يتكلّم العربية بطلاقة، حتى اتهمها العلمانيون والمغتربون بأنها بدّلت التغريب بالتعريب. فأصدرت آلاف العناوين من الكتب العربية، وقدّمت كل الإمكانيات المادية والمعنوية والمساعدات المالية لشراء الكتب العربية وإصدارها ونشرها في العالم، وما معرض كتاب طهران الدولي السنوي الذي يشارك فيه مئات من دور النشر العربية، وعرضه لآلاف العناوين العربية، موّزعاً على مختلف حقول المعرفة والثقافة، واحتضانها من قبل المسؤولين ومديري المؤسسات العلمية المعرفية ورجال الدين والثقافة، والدعم المادي الكبير من الحكومة، اضافة الى تشكيل الندوات العربية ودعوة الكتّاب العرب على هامشه، ليس إلا خطوة اخرى لاستمرارية هذه المسيرة.
بينما تأثر بعض المثقفين العرب خلال العقدين الاخيرين بالمفردات السياسية اليومية التي طغت على السّاحة الثقافية والادبية بين الإيرانيين والعرب، مما ادّى إلى بطءٍ مسيرة هذا التلاحم والتبادل، وحرمان رجال العلم والادب العرب عن النتاج الادبي والثقافي المذهل الذي يسود الساحة الثقافية والادبية.
اليوم وبعد أكثر من الف عام من الجهود الدؤوبة، والحركة الثقافية التي نهض بها مفكرون وعلماء وكتّاب إسلاميون إيرانيون في مراكز إسلامية مهمّة كبلخ وبخارى وخراسان وخورارزم، وتأليف مئات التصانيف في مختلف العلوم القرآنية والحديث والأدب ومختلف العلوم والفنون، اصبحت الفارسية الى جانب العربية مصدراً لنشر الثقافة الإسلامية، وحتى يمكننا القول وبجرأة بأننا لا نستطيع فهم الثقافة الإسلامية وعناصر جمالها بعيدا عن فهم العربية والفارسية معاً، كما يقول الشهيد مرتضى مطهري في كتابه القيّم «الإسلام وإيران1. وأنّ كلّ شخص يودّ أن يبحث في العلوم الإسلامية العربية، بات عليه التعرّف على الفارسيّة فهي إحدى وسائل التبليغ الإسلامي في المراكز البعيدة عن المناطق العربية، حيث انتشر الإسلام بواسطتها في شبه القارّة الهندية وحتى أقصى نقاط آسيا، وأنّ هذه اللغة غدت لمدة ثمانية قرون (من القرن الرابع وحتى الثاني عشر) لغة العديد من الشعراء والأدباء من دلهي وحتى القسطنطينية، ومن سنغافورة وحتى اسبانيا، واغلب السلالات التي حكمت الهند كالغزنوية والغلامية والخلجية، قد اقامت ثقافتها الحديثة على اساس الفارسية.
إنّ استمرار التلاحم والانسجام الثقافي بين الادبين العربي والفارسي، والذي كان بمثابة ردّ فعل ايجابي على تفاعل ثقافتين مهمّتين، حيث كانت كل واحدة منها تحافظ على هويتها وحياتها الخاصة، بعد ان تكون قد استوعبت وتمثّلت بالثقافة الاخرى، إنّ استمرار هذا التلاحم في ظلّ الوضع السائد لمواجهة الثقافة الغازية التي تستهدفنا جميعاً وبعناوين برّاقة كالعولمة هو امر هام للغاية.
ومن دون ادنى شك، فإنّ ازدياد التفاعل وتطوير العلاقات في شتّى المجالات، سيُضاعف النتاج الفكري والأدبي، فنسبة معدلات النتاج الثقافي تتناسب طرديا مع هذا التقارب، ولا ننسى أنّ تنحية العنصر الفارسي في حقبة من الحقبات، وما تبع ذلك من اساءات للفرس، ادّت الى صدمة عنيفة دفعتهم الى مواصلة التزامهم ورفدهم للإسلام، ولكن من مسار آخر نحو الشرق، فقد كرّسوا امكاناتهم وكفاءاتهم في هذا الميدان الجديد. وعكف الادب الفارسي على ترسيخ دعائمه ومتابعة مسيرته الابداعية في شتّى حقول المعرفة، وادّى الى خسائر كبيرة عند الفكر العربي وأدبه بعد القرن الرابع.
وفي كلمة أخيرة، لا بدّ من استئناف المسيرة الثقافية ولاسيما في خضم ما يعتري عالمنا المعاصر من مظاهر استلاب حضاري لا تبقي ولا تذر.
انّ أساليب الدفاع والتصّدي لهذه الهجمة المفبركة المقبلة من الغرب، والتي تستهدف كلّ مبادئنا وحضارتنا واجيالنا، تنحصر في تكثيف التآزر ومواصلة التجربة الخصبة وتخطّي المعوقات الظاهرية، وللمراكز الثقافية والجامعات والمثقفين وأصحاب الفكر وارباب القلم دور حاسم في هذا الإطار، والذي بوسعه ان يدفع النخبة لدراسة التفاعل بين الأدبين ومن الجانبين، كقضية منزهة عن الهوى والتعصب، لنشاهد مرّة اخرى استعادة النهضة العلمية العظيمة في الادبين العربي والفارسي، فليس هناك انسان أقرب الى الآخر أو الى ادب من العربي الى الفارسي، بأمل توثيق وتوطيد الالفة والأخاء بين الإيرانيين والعرب، إن شاء الله.