“جدليات كورونية” 5 للمستشارية الايرانية في بيروت: التدّین المسالم
أكد الخبراء والأكاديميون المشاركون في ندوة “كورونا؛ جدليات الهوية الإنسانية” الافتراضیة في بيروت أن زمن الکورونا فرصة لطرح التدین بصورته الجمیلة، والمسالمة والحضاریة، موضحين أن العالم الإسلامی بحاجة الی وعي جدید ودعاة أکفاء لبث هذا الوعي.
وإفتتح المستشار الثقافی الإیرانی لدی بیروت الدكتور “عباس خامه یار” الندوة الخامسة من سلسلة ندوات “جدلیات کورونية” التی أقیمت إلکترونیاً کـ السابقات، وإستهل کلامه معزیاً بإستشهاد الإمام علی (ع) قائلاً: لا نستطیع وصف شخصیة هذا الإمام العظیم العبقریة والفریدة.
وقال: نعزي کل عالم الإنسانیة بفقدان هذا الإنسان العظیم الذی نحن الیوم بأمس الحاجة الیه وإلی تعالیمه.
وشرح مسار الندوات الخمس قائلاً: إننا بدأنا بندوة واحدة کان الهدف منها تحدی کورونا ومناهضتها في مجال العمل الثقافی وإثبات أن العمل الثقافی لا یمکن لجائحة أن توقفه ولم نتصور بأن هذه الحلقات تستمر بهذا الشکل وأن یکون لها هذا الصدی الکبیرخارج الحدود.
وأضاف أن هذه الندوات ستتوقف هذا الأسبوع لسببین أولاً نحن مقبلون علی یوم القدس العالمی وثانیاً مقبلون علی یوم النکبة وهما حدثان بحاجة الی فقرات أخری.
وأردف المستشار الثقافی الإیرانی لدی لبنان قائلاً: إننا سوف نستمر بالندوات بعد شهر رمضان ونأمل مشارکة الأساتذة من کل مکان.
وتقدم بالشکر الجزیل لکل الأساتذة الذین واکبوا الندوات وأثروها بمشارکاتهم کما تقدم بالشکر الجزیل للإعلام الإفتراضی والمکتوب لتغطیته الندوات وخص وکالة “إکنا” للأنباء القرآنیة بالشکر الجزیل لتعاونها في تغطیة الندوات علی أعتاب الذکری السابعة عشرة لتأسیسها.
وقال إننا قمنا بتنظیم هذه الندوات في ظل ظروف تفشي الوباء الصعبة وأثبتت هذه الندوات أن الثقافة یمکنها تجاوز کل السدود وکل العوائق ولا یستطیع أحد حتی وإن کان کورونا أن یقف أمام الأنشطة الثقافیة.
زمن الکورونا فرصة لطرح التدین بصورته الجمیلة والمسالمة والحضاریة
وبدوره، ألقى الكاتب والأستاذ الجامعي الجزائري، الدکتور “نورالدین أبو لحیة” محاضرته بعنوان “أثر كورونا على الضمير الأخلاقي وعلى إمكانيات الضبط الفردي والمجتمعي” في الندوة الخامسة من سلسلة ندوات “جدلیات کورونية” التی أقیمت تحت عنوان “كورونا: جدليات الهوية الإنسانية” بتنظيم المستشاریة الثقافیة الإیرانیة لدی بیروت إلکترونیاً.
وجاء في المحاضرة: “علینا إستثمار تفشي الوباء الجدید وأن نجعل منه فرصة لطرح التدین بصورته الجمیلة وبصورته المسالمة والحضاریة.
وعندما نتحدث عن کورونا هناك ثلاثة أسئلة یجب عرضها؛ أولاً: هل یمکن للأوبئة أن تؤثر في سلوك الفرد والجماعة؟ ثانیاً: ما هي طریقة ذلك التأثیر؟ أي ما هی المراحل التی یمر بها التأثیر حتی یتحقق في الواقع؟ ثالثاً: ما هي الشروط التی یجب تحقیقها حتی یتحقق التأثیر الإیجابی للأوبئة؟ وأقصد بالأوبئة کل الأحداث التأریخیة الکبری التی تنقل البشر من مرحلة الی مرحلة أخری.
وطبعاً الإجابة علی السؤال الأول تقتضی منا النظر فی أمرین الأول هو “الواقع” ، وإن الواقع له تأثیره الکبیر. عندما ندرس الواقع نجد ان هناك تأثیراً کبیراً للأوبئة ولذلك هناك علم إجتماعی یدرس “سلوکیة الأوبئة” أو علم النفس الإجتماعي المرتبط بالأوبئة فـ هؤلاء العلماء وجدوا أن لهذه الأوبئة تأثیر واقعي أي تأثیر في السلوك وتأثیر فی القیم وتأثیر فی العلاقات وتأثیر فی الضمیر الأخلاقی وعندما نقول الضمیر الأخلاقی فـذلك یستند الی رؤیة فکریة وفلسفیة ولذلك لایمکننا أن ندرس الضمیر الأخلاقی والضبط الإجتماعی والفردی بعیداً عن الرؤی الفکریة.
وإننا نری أن لهذه الأوبئة تأثیراً فی تعدیل الفکر الذي یؤثر بعد ذلك في تعدیل السلوك.
والأمر الثاني الذی یجب النظر فیه و نؤمن به کـ متدینین هو “أن الله سبحانه وتعالی مؤثر فی خلقه” بمعنی أنه لم یخلق الخلق ثم یعتزله. عندما نرجع الی الکتاب المقدس نجد هذا المعنی فـ یقول الکتاب المقدس لسلیمان (ع) “إِنْ أَغْلَقْتُ السَّمَاءَ وَلَمْ يَكُنْ مَطَرٌ، وَإِنْ أَمَرْتُ الْجَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ الأَرْضَ، وَإِنْ أَرْسَلْتُ وَبَأً عَلَى شَعْبِي” فالغرض من الوباء وغیرها هی التربیة الإلهیة. ولذلك أعتقد أن الوباء یندرج تحت هذا المفهوم حتی وإن کانت له أسباب علمیة هناك سبب إلهی یرجع الی التربیة الإلهیة.
وأیضا یقول الکتاب المقدس “فَإِذَا تَوَاضَعَ شَعْبِي الَّذِينَ دُعِيَ اسْمِي عَلَيْهِمْ وَصَلَّوْا وَطَلَبُوا وَجْهِي، وَرَجَعُوا عَنْ طُرُقِهِمِ الرَّدِيةِ فَإِنَّنِي أَسْمَعُ مِنَ السَّمَاءِ وَأَغْفِرُ خَطِيَّتَهُمْ وَأُبْرِئُ أَرْضَهُمْ”. هذا النص جاء فی الإنجیل ونجد شبیهاً له فی القرآن الکریم.
وبدوره، ألقى إمام الجالیة اللبنانیة في السنغال ورئیس المؤسسة الإجتماعیة الإسلامیة الشیخ “عبدالمنعم الزین” محاضرته بالندوة الإلکترونیة الخامسة من سلسلة ندوات “جدلیات کورونية” في بيروت تحت عنوان “التقوى وأثرها على الفعل الإنساني”، وإلیکم نصّ المحاضرة:
“في مثل هذه المحاضرات سواء في ندوات أو مؤتمرات یکون مصب الحدیث علی بیان المشکلة وقلیل ما نتطرق للعلاج. الطبیب الذي یشرح للمریض مرضه بالدقة الکاملة ولا یعطیه علاجه لا یفیده بشئ.
وهنا لدینا مشکلة أو إشکالیة وللمشکلة عدة شعب إحدی هذه الشعب هو “کورونا” والشعبة الأخری هم “الناس” أي فهم الناس للمشکلة والشعبة الثالثة هو “موقف الدین” هل للدین موقف من هذه المشکلة أم لا.
وهذه الأمور یمکن البحث فیها عندما یکون هناك أناس متخصصون ولکن نحن نتحدث عن العلاج.
وحدیثي عن العلاج أبدأه بآیة حیث یتحدث القرآن الکریم عن الجهاد “وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ”.
وهذا یعني الذهاب الی الحرب بـ عُدة یعنی سیف ورمح وغیره لیس الهدف منه أن أقتل شخصاً أو أکون شهیداً بل الهدف النهائی أن أکون واعیاً لما أخترت ما یکون دیني وهذا الوعي في ذلك الزمان کان علی ید النبی (ص) والنبی (ص) عندما کان یسافر من المدینة کان الوعی یقف.
وإذن من کل مجموعة یذهب شخص مع النبي (ص) لیلتقف منه الآداب حتی اذا رجع الی قومه الذین خسروا الوجود النبوي لشهر أو شهرین یقوم بتعزیز الوعي.
إذن الهدف هو التعلیم وأن نستوعب الدین إستیعاباً کاملاً حتی نستطیع أن نعالج به أمراضنا من جهة وأن نعرضه علی الآخرین من جهة ثانیة.
وتساءل کیف یمکن أن نستعید شخصیتنا ووجودنا ودیننا ومجتمعنا وتراثنا إذا کنا نبکي علی ما نحن علیه؟ بمعنی أن مجالس العزاء علی ما نحن فیه لا تکفینا نحن بحاجة الی عملیة إنقاذ تنقذ مجتمعنا مما نحن فیه.
وهذه العملیة لها درجات، الدرجة الأولی تربية الدعاة الأکفاء الذین یخاطبون المجتمع العصری باللغة التی یفهمها ولاأقصد أن یستخدموا اللغة الإنجلیزیة أو الفرنسیة إنما أقصد بأسلوب التفکیر الذی یفکر به الإنسان. العالم الإسلامی بحاجة الی تربية دعاة أکفاء یخاطبون المجتمع العصری باللغة التی یفهمها یملکون بضاعة سلیمة لعرضها علی المجتمع.
من نرسل؟ هل نرسل الشخص الذي تعلم لسنة أو سنتین أو ثلاث وحتی وإن تکلم الإنجلیزیة أو غیرها، علينا أن نجيب آنه لا یصلح إذا لم یملك بضاعة سلیمة یعرضها علی المجتمع.
أما الفيلسوف الفرنسي مارسيل غوشيه فيعتبر أن أزمة فيروس كورونا جعلتنا في سيرورة يقظة، وقال سنرى في الأسابيع المقبلة إلى أي مدى ستتقلص الفجوة بين الفرد والجماعة أو تصبح أكثر اتساعا. نحن نعيش اختبارا سياسيا حقيقيا واسع النطاق. هل تمكن البعد الفرداني الليبرالي والخاص من السيطرة بشكل كامل في مجتمعاتنا أم لا؟.. في المملكة المتحدة، تبنى بوريس جونسون بشكل علني استراتيجية “الحصانة الجماعية” أو مناعة القطيع “Herd Immunity” من خلال عدم حجز السكان وإعلان أن عددا كبيرا من الأشخاص الضعفاء أو المسنين سيموتون. يتوافق هذا الموقف القائم علي الاستهتار البراغماتي ” Cynism pragmatique” مع نوع من التقاليد الإنجليزية. فهو ينطلق من افتراض أن الثمن الذي يجب دفعه، اقتصاديا واجتماعيا، للاحتجاز باهظ للغاية وأن المرض ليس في حد ذاته خطيرا للغاية بالنسبة للعدد الأكبر من السكان، وبالتالي فمن الضروري تحمل “الضرر الجانبي”. فأمام التوصيات التي قدمتها الحكومة البريطانية نجد أنفسنا أمام خيار ليبرالي للغاية: بشكل فردي، أنت تفعل ما تريد، حتى إذا تم نصحك بالبقاء في المنزل، لكن بشكل جماعي، لا نأخذ تدابير سلطوية قاهرة. إن الحرية والمسؤولية الفردية هي التي لها الغلبة[1]. وقد تراجع جونسون رئيس الوزراء البريطاني عن هذه السياسة الصحية في مواجهة فيروس كورونا تحت ضغط الرأي العام الناقد، وبعد أن قامت جامعات عريقة في بريطانيا بتقديم دراسات علمية معمقة تنقض مبدأ “مناعة القطيع”.
تأتي أهمية الأخلاق في هذه المنظومة كونها تشكل الضابطة في بعدين هما:
١- البعد الفردي حيث تضبط جوانحيا أعماق الإنسان وتربطها بقيم السماء وأخلاق الله تعالى، هذا الانضباط النفسي هو النواة التي تنطلق منها الضوابط في بعدها الآخر. فالبعد الفردي يقتصر على ساحة الكمال الفردي الإنساني.
فالتضحية في سبيل الأخرين عمل يقره الضمير والوجدان، ولكن يتجسد كأثر سلوكي يحقق غاية الكمال والتكامل الفردي والاجتماعي إذا ما ارتبط بالله ومعرفته والتسليم لقوانينه كافة.
وينظر إلى القانون على أنه مجموعة قواعد، فيعرف القانون على أنه (مجموعة قواعد عامة مجردة ملزمة تنظم العلاقات بين الأشخاص في المجتمع)، فالقاعدة القانونية تختص بأنها عامة ومجردة (تنطبق على الجميع) وملزمة.
ولا يمكن للقانون أن يحدث الأثر المرجو منه، ويحقق الهدف المرجو منه إلا في حال جرى تطبيقه على الجميع دون فرق، وإلا بات القانون لا يساوي الحبر الذي كتب به. فالقانون يرسم الحدود ويضبط السلوك الخارجي وإن جبرا، ولكنه يحتاج عوامل أخرى كي يحقق هدف الاستقرار الاجتماعي المستديم.
وجوهر هذه الاستدامة في الاستقرار الاجتماعي هو احراز القانون للعدالة الاجتماعية، والعدالة قيمة غائية لا تعتمد في تحقيقها فقط على القانون والضبط الاجتماعي، بل تحتاج بشكل كبير للانضباط القيمي والمعياري والأخلاقي على مستوى الفرد (الذات)، وهو ما قد يمكن تحقيقه من خلال بوابة التقوى، والتي تلعب دورا هاما في الحياة الدنيا، وضبطها وتحقيق العدالة، واستدامة الاستقرار الاجتماعي.
ـ المؤسسات التعليمية من مدارس وجامعات ومعاهد، وما تتبناه كمنهج تعليمي وما تستخدمه كأدوات.
ـ مؤسسات المجتمع الأهلية بمختلف مجالاتها، وقدرتها على امتلاك مشاريع عمل، تدمج طبقات المجتمع المختلفة في مشاريع التوعية القانونية، وامتلاك رؤية قادرة على رفد الدولة بضوابط تعالج مشاكل المجتمع، وتدفع باتجاه المزيد من الاستقرار الاجتماعي، لتلعب دورا هاما أيضا في تحويل تجربتها البشرية الميدانية إلى قضايا يمكن تشخيص قوانين ضابطة لها، وعلى ضوء الثوابت ومن خلالها تبني جسرا يمتد بينها وبين المؤسسات الدينية.
ـ الاعلام ودوره في صناعة وعي الجمهور، وترسيخ ثقافة الضوابط والالتزام بها وبالقوانين الداعمة للنظم والاستقرار.
فانضباط النفس والذات، هو انطلاق نحو الانضباط الاجتماعي الخارجي.
٢- البعد الاجتماعي: هنا هي ساحة التفاعل الإنساني في السير نحو كل من الكمال والتكامل الإنساني، ومحورية الأخلاق هنا تأتي كضابطة تمنع وقوع الفساد الاجتماعي، وتدفع باتجاه التطور والتنمية البشرية على كافة الأصعدة.
لكن كيف يمكن أن تشكل الأخلاق ضابطة فردية واجتماعية في ظل وجود الأنا والذات والنفس؟
– الشعور الأخلاقي متصل بالشعور بمعرفة الله:
والاسلام يعني الاستسلام لقانون الله، ولله سبحانه نوعان من القوانين، الأول ما أودعه بالفطرة لكل البشر، والثاني ينطلق من الأول ويتفرع عنه، لكن لا تتم معرفته إلا عن طريق الأنبياء والمرسلين، فالأول كليات وبنى تأسيسية لكل البشر، والثاني فروع من تلك الكليات ترسم معالم السير الإنساني في الدنيا على ضوء ما أودع في فطرته.
فالقانون الأول موجود في الإنسان وهو غير واع له، والثاني يحتاج إلى إدراك ووعي والتفات كي يقع التسليم لقوانين الله.
ولكي تصبح الأخلاق ضابطة فردية واجتماعية لا يكفي الوجدان والضمير في كونهما منابع أخلاقية للإنسان، فالغاية هي أن تتحول هذه القوانين الفطرية لقوانين سلوكية مدرَكة تقع عن وعي الإنسان لها، بالتالي يكون سعيه نحوها بعد إدراكها باختيار منه وإرادة منبعثة من هذا الوعي، ويرتبط اختياره ليس فقط بإحرازه الراحة النفسية وراحة الضمير، بل بإحرازه رضا الله، والذي غاية فوق كل الغايات، فالضمير منفردا ليس ضابطة تلزم كل الناس وتضبط سلوكهم، بل لا بد من جهة عليا يرتبط فيها الإنسان بالعقاب والثواب، تقنن له قوانين ناظمة، وبالتالي يستمد منها قواعده العامة، ليقنن على ضوئها قوانين وفق كل زمان ومكان، وتكون الضابطة العميقة نفسيا وأخلاقيا وقيميا هي رضا الله والخوف من عقابه الذي يعني الألم، والسعي لثوابه الذي يحقق السعادة في الدنيا والآخرة، وليس فقط وجود قانون مخالفته قد تحقق مفسدة للإنسان.
مصادر التقنين:
كي يحرز القانون هدفه في الضبط وتحقيق العدل، لابد له من مرجعية خبيرة ومحيطة بالإنسان وعلاقته بالطبيعة والإنسان الآخر، وكيفية نظم هذه العلاقات بما يدفع باتجاه التطور والتقدم والتنمية المستديمة، ويزيل كل العوائق النفسية والاجتماعية.
والمصدر في التقنين يجب أن يتصف بالإحاطة والشمولية والتجرد والموضوعية، حتى يستطيع سن قانون تحقق الهدف من التقنين، ويضبط السلوك الفردي والاجتماعي بما يحفظ النوع الإنساني ويحقق العدل.
فنحن هنا أمام مرجعيتين:
١. المرجعية الالهية المحيطة الشاملة الخبيرة غير المحدودة، وهنا نعني من حيث الضوابط والقوانين العامة دون إنكار لدور العقل الذي منحه الله للإنسان في التفصيل، وتشخيص الأصلح، لتحقيق تلك الغايات وتطبيق تلك الحدود العامة.
٢. المرجعية البشرية المحدودة، والتي يلعب فيها كل من العقل البشري المحدود والذات دورا كبيرا في تشخيص القانون.
المرجعية الالهية متمثلة في القرآن الكريم والسنة المعتبرة والحديث المُحَقَّقْ، بحيث يشكل القرآن المرجعية المعرفية المعصومة لباقي المصادر، ويلعب العقل دورا هاما ومحوريا في الوصول لحكم الله.
المرجعية الالهية تنظم القوانين وفق أسس ثابتة وأخرى متغيرة وفق الزمان والمكان، تكون فيها الثوابت مرجعية لتلك المتغيرات، بحيث تشكل قواعد كلية صالحة لكل زمان ومكان، وتكون المتغيرات في مصاديق تحقيق تلك الكليات الثابتة. أو إن كانت كليات ثابتة مع تفاصيلها، فإن المحرك العملي هنا قواعد كلية مرنة منتزعة من الشريعة، تعمل كمفصل مرن يجعل من هذه الثوابت صالحة لكل زمان ومكان، كقاعدة ” لا ضرر ولا ضرار ” على سبيل المثال لا الحصر.
وهذا لا يعني إلغاء دور العقل ومنع الاستفادة من التجارب البشرية الاجتماعية، فالنبي ص أمضى حلف الفضول الذي تأسس قبل الاسلام، كونه يلتقي في مقاصده الاجتماعية وحراكه مع قيم الاسلام الرفيعة، فالإنسان مفطور على حب الخير.
إذا معيار الاستفادة من تجارب الأخرين البشرية الاجتماعية وما يتعلق بالتقنين، هو عدم تعارضها مع القواعد الكلية للشريعة ومع مقاصد الاسلام العليا، وتحقيقها لجوهرة القيم ” العدالة “، وعدم امتهانها لكرامة الإنسان ودوره الخلافي على الأرض.
فالعقل أحد مصادر التشريع من جهة، وأحد مصادر المعرفة من جهة أخرى، وهو قادر على كشف الواقع، والانتزاع من جزئيات مستقرئة، قوانين كلية قادرة على نظم الواقع الإنساني اجتماعيا، ويكون الوحي (النص) حارسا يمنع خروج العقل عن جادة التفكير المنطقي، ويمده بالمواد الخام، في حال عجز عن الحصول عليها مستقلا لمعرفة واقع الأمر.
ولكن ما هي ضابطة الإلزام في تطبيق القانون؟
ضابطة الالزام في تطبيق القانون:
وسن القانون وفق قاعدة الحق الالهية المنشأ، ووفق قاعدة المرجعية الالهية مع الاستفادة من التجارب البشرية والعقل البشري، التي لا تتعارض مع هذه المرجعية لا يكفي في تحقيق الهدف، حتى مع الالزام الخارجي في تطبيقه، كون الهدف من القانون احراز الاستدامة في الاستقرار الاجتماعي، وتحقيق العدالة الاجتماعية. وهذا لا يتحقق إلا من خلال بناء الفرد بناء معنويا روحيا وفق مبدأ الرقابة الالهية واتصال الدنيا بالآخرة، وليس مبدأ فقط رقابة الدولة عليه لتطبيق القانون، فمع تمكن الفرد من تجاوز القانون دون وقوع عقوبة عليه ودون تطبيق القانون عليه، فإن ذلك يعني عدم قدرة القانون منفردا على تحقيق مبدأ الإلزام الدافع للفرد إلى التطبيق، كون التطبيق يتطلب رقابة من قبل المشرع، ومع غياب الرقابة أو امتلاك الفرد سلطة ونفوذ، فإن ذلك يمكنه من مخالفة القانون. لذلك فإن القانون منفردا لا يمتلك كامل الصلاحيات الإلزامية، التي تدفع الفرد لتطبيق القانون، إلا ضمن شروط محددة زوالها يؤدي إلى المخالفة.
فالقانون لا يلعب دورا في الضبط الأخلاقي وارتفاع منسوب التقوى، وما يقوم به القانون هو ضبط سلوك الفرد الظاهري، ضمن شروط تحقق الضبط، بينما التقوى والانضباط الأخلاقي، هما الأساس في تطبيق القانون وتحقيق أهدافه. ومع كون التقوى مصطلح إسلامي خاص، إلا أنني هنا لا أعني به المعنى الإسلامي الحرفي فقط، والذي يخلق لدى المسلم حالة نفسية باستشعار رقابة الله الدائمة، مما يمنع النفس من مخالفة القوانين الشرعية والمدنية التي تنظم حياة الفرد والمجتمع، وتمنع الفوضى وإشاعة الفساد. أما بالنسبة للتقوى ببعدها الإنساني الخارج عن حدود الدين والعقيدة، فأعني بها الضمير[1] الأخلاقي الذي يمتلكه كل فرد، هذا الضمير يعتمد على قدرة العقل مستقلا في تمييز الحسن من القبيح، وهو ما يحتاج إلى تحفيز حقيقي، كون الضمير مرتبط بتحقيق اللذة ومتعلق بفعل الفرد، لقدرته على تمييز الحسن من القبيح، بالتالي يسعى دوما للشعور بالسعادة واللذة، واللتان لا تقتصران على الأمور المادية، بل أيضا الأمور المعنوية المرتبطة بإنسانية الإنسان بغض النظر عن أي انتماء.
” فالضمير مركب من الخبرات العاطفية القائمة على أساس فهم الإنسان للمسؤولية الأخلاقية لسلوكه في المجتمع، وتقدير الفرد الخاص لأفعاله وسلوكه. وليس الضمير صفة ولادية، إنما يحدده وضع الإنسان في المجتمع، وظروف حياته، وتربيته، وهكذا. ويرتبط الضمير ارتباطا وثيقا بالواجب، ويشعر المرء– بوعيه بأنه انجز واجبه تماما –بأنه صافي الضمير، أما انتهاك الواجب فيكون مصحوبا بوخزات التأنيب. والضمير، في استجابته الايجابية لمتطلبات المجتمع، قوة دافعة قوية للتهذيب الأخلاقي للفرد.
والإلزام كضابطة لتطبيق القانون وكقاعدة تعتمد في تطبيقها على الفرد وعلى تربيته وفق مبدأ الرقابة الإلهية، وهو ما يتطلب وجود برنامج شامل يبني قواعده العقدية على أساس التوحيد، وينطلق به ليكمل بناءاته وفق إرادة الخالق المنظمة لجوارحه سلوكيا، وفق مجموعة من القوانين والتشريعات المرسلة عن طريق الأنبياء بالأصالة، ومن يكمل مسيرتهم من الأوصياء والعلماء والنخب الملتزمة لتلك المبادئ قولا وعملا، ووفق مجموعة من القيم والضوابط الأخلاقية التي تعني بضبط بعده الجوانحي المعنوي، وفق نفس الطريق في التبليغ بها.
فما نعيشه اليوم من تجربة للمرجعيات البشرية في سن القوانين الناظمة والضابطة للحياة الاجتماعية، والأوبئة مثال صارخ على تجاوز القيم الأخلاقية في حال تضررت المنفعة العامة وتضرر رأس المال، أي في حل وقع ضررا اقتصاديا كما حدث في وباء كورونا، حيث اعتبر كبار السن غير ذات نفع ولا يعود وجودهم بأي إنتاج يصب في رأس المال، بل يشكلون عبئا على الدولة، فتركوا غالبا دون مساعدة، بل حتى دور الإعاقة في أمريكا قررت بعض الولايات عدم تقديم أي مساعدة لهم، وتركوا لمصيرهم في مواجهة الوباء. وهذا أكبر دليل على عدم قدرتها منفردة في تشخيص الواقع ومعالجته، للقصور الذي يظهر في تلك القوانين بعد مرور زمن طويل على تطبيقها، وظهور جوانب القصور فيها، لعدم تحقيقها للانضباط والاستقرار المستديم، وعدم إرسائها للعدالة الاجتماعية، لخلل ما في التطبيق على الجميع أو لخلل في تشخيص الواقع الذي على ضوئه سن القانون.
فحينما تتحكم النظريات البراغماتية والنفعية كمرجعية أخلاقية في تحديد المسؤوليات الاجتماعية اتجاه الأفراد والمجتمعات، فإن ذلك سيضع قيمة العدالة والكرامة على محك، وسيؤدي إلى ظهور ثغرات أخلاقية حقيقية، تظهر الخلل في فهم العدالة والكرامة، أي خلل مفاهيمي ناشئ عن بنية الغرب المعرفية، ومصادرها التي تستبعد البعد المعنوي والغيبي، وبالتالي تنظر للإنسان كجسد مادي، قيمته تكمن في مدى فائدته لرأس المال العام.
فقد يلتزم الأغلب بالقانون بدافع حماية النفس من العقاب أو التعدي عليها لانتهاك القانون، أو دفعا لاستقرار المجتمع، لكن قد يمتلك بعض الأشخاص من النفوذ المالي والسلطوي ما يمكنهم من تجاوز القوانين الناظمة دون رقيب أو حسيب، فيكون القانون بذلك لا يملك بذاته صفة الالزام، ولم يتم تطبيقه على الجميع لموانع خارجية، غالبها تأتي من تلك الجهة، إما الواضعة للقانون أو المنفذة له، كون الأساس الأخلاقي الحاكم على مسار التطبيق هو الأساس النفعي.
فطالما المنفعة تتطلب تجاوز القانون وعدم تطبيقه، فلن يطبق لتحقيق هذه المنفعة، خاصة عند اجتماع السلطة والنفوذ مع المنفعة والمصلحة الشخصية، المنطلقة من حب الذات، فإن ذلك مع توفره، فلن يلزم صاحبه بتطبيق القانون.
وما يكسب القانون إلزاميته هو الإنسان ذاته، وما يملكه من أبعاد قيمية ومعايير ضابطة، ترتبط إما بتماهيه مع فطرته وما جبل عليه من الخير، أو ما يملكه من ضمير أخلاقي، أو لارتباط هذا العنصر البشري بالسماء وإحرازه لمقومات التقوى المعززة للانضباط الذاتي. والضمير الأخلاقي حينما يتحول إلى ثقافة اجتماعية، بحيث يصبح ارتكاب القبيح أو المخالفة القانونية أمرا مستنكرا اجتماعيا، فإن هذا الاستنكار الجماعي للقبيح وللمخالفة يشكل بذاته ضابطة للفرد وللمجتمع، تمنعه حتى مع عدم وجود رقيب، من ارتكاب القبيح أو مخالفة القانون، تحسبا لاستنكار المجتمع ولعزله اجتماعيا، ولحوق العار الاجتماعي به، نتيجة هذا الانتهاك المخالف للضمير الأخلاقي الاجتماعي.
وغياب الله عن هذا النظم، سيؤدي خاصة في الكوارث، إلى تسلط القوي على الأضعف، وتحكم الأقوى بالأضعف، بل قد يصل الأمر لتحكم القوي بحياة الأضعف، وتحديد حتى موته، كما حدث في الدول الغربية في وباء كورونا، حيث كان الأطباء يقدمون الأصغر سنا على الأكبر سنا في تقديم العلاج، ويتركون كبار السن يواجهون الموت دون أدني مساعدة.
وكان لصحيفة لوموند الفرنسية لقاء مع الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس حول جائحة كورونا Covid-19
يوضح هابرماس فيها مسألتين:
- مسألة المساواة في حق الحياة، وعدم جواز استخدام المقياس الكمي في تشخيص هذا الحق.
- مسألة الإغراء النفعي الذي يقم قيمة السوق على قيمة حياة الإنسان.
وهما مسألتين تأتيان في سياق فلسفة الغرب الأخلاقية التي تعتمد على نظريتين رئيسيتين في المنهج السلوكي والأفعال وهما: النظرية النفعية والنظرية البراغماتية.
وقد نحتاج لوقت من الزمن حتى تتجلى تداعيات السلوك الغربي أثناء الوباء مع الشعوب الغربية، وتداعيات الفلسفة الأخلاقية التي تم تشييدها على مصادر معرفة محدودة، كان معيارها السيطرة على الطبيعة، وأهملت موضوع السيطرة على الذات.
وبدوره، تحدث في هذه الندوة الافتراضية رئيس أساقفة صور وتوابعها للروم الكاثوليك المطران ميخائيل أبرص حول “العولمة وأثرها على الهوية الإنسانية؛ كورونا أنموذجاً”وإليكم نص المحاضرة:
أود أولاُ أن اهنئ المستشارية الثقافية للجمهورية الإسلاميّة في لبنان وأهنئ الدكتور علي قصير على اختيارهم هذا الموضوع الشيّق “كورونا: جدليات الهويّة الإنسانيّة”: فهو موضوع معاصر وهام جدًا لمستقبل العالم أجمع وللبنان بنوع خاص، أشكركم على استضافتكم لي. وأرحب بالآخوة المشاركين في هذه الندوة و هم “الحاج عبد المنعم الزين”، و”الأستاذ الكاتب الدكتور نور الدين أبو لحية”، و”والباحثة الأستاذة إيمان شمس الدين”، وتحية وسلام إلى جميع المشاهدين الكرام.
وبادىء ذي بدء أحب أن أقول أن هذا الوباء الخبيث كورونا، الذي اجتاح العالم كلّه تقريبًا، قد أصاب حتى الآن أكثر من أربعة ملايين شخص، واباد منهم أكثر من 300.000 إنسان، قد أربك العالم بأسره وكشف لنا أمورًا هامة لها علاقة بالعولمة وبالهويّة الإنسانيّة.
2) الدكتور ابراهيم سعيد من سوريا:
وفي الحقيقة استفدت كثيرا وآخرها هذه الفتوى التي تحكي عن التعهد، هي حلوة، على كل حال، اذا بدأت من حديث سيادة المطران ميخائيل ابرص، فكلامه يقع ككل هؤلاء المطارنة المناضلين ضمن لاهوت التحرير، وانه بالفعل، المعركة هي معركة القيم، وإذا ترجمناها بطريقتي فهي حرب حضارية، فلو كان هذا الدين يمشي على طريقة مارسيه غوشيه الذي يصلنا بماك سويبر دين الخروج من الدين أقبلوا به، ولكنه هو دين الدخول في الدين، لذلك فالقصيم التي تنتج وعيا وموقفا وكذا هذه تعتبر نقيضة، بالفعل دكتورة ايمان طرحت افكارا مهمة جدا، وجريا على حديث الشيخ غالب هو كتب كتابا رائعا جا، ان اطلعت عليه، وهو من اوائل ما كتب حقيقة.
5) ايمان شمس الدين:
5) الدكتورة ليلي شمس الدين:
اريد ان اربط كلام ادغار مورا له كتاب تحدث فيه عن انسانية الإنسان، وتحدث في فضل خاص عن الهوية الإنسانية، واعتبر ادغار مورا ان الإنسانية تحتاج إلى تضامن إنساني حول مصير الكوكب المشترك، كيف سنترجم نحن هذه المقولة، نحن بحاجة إلى إيجاد مجتمعات او (عالم)، ربما عوالم تحدده وتسيره اخلاق معرفة انسانية، تسمع لنا بالتعامل مع انتماءاتنا على تناقضاتها، في هذا العالم المتشابك، في زمن الكورونا الذي أبرز وأظهر عادة في زمن الازمات تظهرالعيوب في الثقافات، والعيب في الأنفس، وهذا امر مسلم به.
اذا تتعرى العيوب في هذا الزمن، فهل سنتمكن نحن من إيجاد فهم جديد للذات، لاحتياجاتها، تقع المسؤولية برأيي على عاتق المنظرين والعاملين والفاعلين في هذه المجتمعات وهذا العالم، لتحديد وابراز وتفعيل الهوية الجماعية الإنسانية، الممثلة بكامل انواع التنشئة الاجتماعية التي نعرفها والمرتبة ايضا بالنظام الإنسانية المتضاربة في هذا الزمن الذي نعيش، بالتالي نحن نعيش هجانة، بكل شيء، حتى.
7) الدكتور خضر نبها
وايضا الامام الخميني “رض” عندما سئل من قبل مجموعة من الشباب الايرانيون الذين كانوا يدرسون في اوربا ، ويقولون هؤلاء ناهبي ثرواتنا في عهد الشاه، فهل يحق لنا ان نعوض على تلبية حاجاتنا في عدم دفع الضرائب بطريقة او بطرق اخرى ، جاء استفتاء خطي كتبه الامام الخميني في تلك الفترة وقبل الانتصار منع فيه الامام هذا الامر وقال : لا هذا حرام . اذن هذه مبادئ لاتختلف باختلاف العلماء وباختلاف الاجيال ، هذه مبادئ دينية نؤمن بها ، واتصور بان هذه المبادئ متواجدة في كل الاديان وعند كل الذين يفكرون بنفس ديني عميق وتفكير الهي وشكرا.
9) الشيخ عبد المنعم الزين
المشكلة ليست في الاديان ، الاديان كلها اخلاق ، الاديان مملوءة بالتعاليم القيمة التي تحّول البشر الى انسان كامل بكل معنى الكلمة ، لكن المشكلة في التطبيق امس مثلا خادمة عندي في البيت صائمة وهي مسيحية، لما سألناها لماذا انت صائمة اليوم ، وان صومكم انتهى منذ شهر تقريبا ، قالت: سيادة البابا في روما طلب من جميع المسيحيين في العالم بان يصوموا يوم الخميس يوم امس تضامناً مع المسلمين ليدعوا الله تعالى ، في ليلة الواحد والعشرين وهي ليلة استشهاد الامام وليلة القدر للخلاص من مشكلة كورونا . انا تاثرت بهذا الموضوع جداً، واقول دائما ان المشكلة ليست في نصوص الديانات، المشكلة في فهمها وتطبيقها، كما قال امير المؤمنين(ع) ، عندما قال له الخوارج : لاحكم الالله ، قال : نعم لاحكم الا لله . هناك بشر يفهمون كلام الله ويديرون شؤون البشر لذلك انا اقول : نحن بحاجة بان نتعاون كلنا ، اذا صح التعبير علماء الدين في كل الاديان في تربية المجتمعات البشرية من جديد حتى تتماشى مع الاخلاق الالهية وشكراً.