الدكتور احمد قيس
الدكتور احمد قيس

محمد ابن الحنفية

محمد ابن الحنفية

# المفكر الدكتور احمد قيس

لطالما شكلت مصر منذ بزوغ الفجر الإسلامي عليها وجهة ومقصداً لآل البيت ، و السبب له من وراء ذلك – وبحسب التتبع التاريخي – هو ذلك الحب والود من المصريين لآل بيت النبوة ، وحب آل البيت وذراريهم الأشراف لمصر عبر الأزمنة والمراحل المتعاقبة، وكانت تشكل بالنسبة إليهم واحة أمن وأمان وحبّ، وبيئة حاضنة تُقدّر وتعظم شأنهم على مر الأيام حتى يومنا هذا .
ومن هؤلاء الطيبين أبناء الذرية الطاهرة، محمد ابن الحنفية
رضوان الله عليه .

فمن هو محمد بن الحنفية؟
هو محمد بن علي بن أبي طالب ، وكنيته أبو القاسم، وكان ولا يزال يُعرف بابن الحنفية نسبة إلى أمه خولة بنت جعفر بن قيس من قبيلة بني حنيف. وقد تزوج الإمام علي من السيدة خولة وذلك بعد وفاة سيدة نساء العالمين فاطمة ، وأنجب منها محمد الذي عُرف لاحقاً بابن الحنفية نسبة لوالدته، وتمييزاً له عن شقيقه محمد الأصغر المكنى بأبي بكر وأمه ليلى بنت مسعود .
ولد في المدينة المنورة عام 21 للهجرة في زمن الخليفة عمر بن الخطاب راه ، وشبّ وترعرع ابن الحنفية في بيت والده أمير المؤمنين مع باقي أشقائه، وعرف بالتقوى والعلم والورع والشجاعة، حيث كان صاحب اللواء يوم الجمل مع الإمام علي وأبلى بلاء حسناً، فلما أعطاه علي الراية أوصاه قائلاً له : تزول الجبال ولا تُزل، عض على ناجذك، وأعر الله جمجمتك، وتد في الأرض قدمك، وارم ببصرك
أقصى القوم، وغضَّ بصرك ، واعلم أن النصر من عند الله سبحانه . وكان على ميمنة جيش الإمام علي مالك الأشتر له ، وعلى ميسرته عمار ابن ياسر ، وأعطى الراية ابنه محمد ابن الحنفية، وكان عمره يومذاك عشرون سنة .
وشهد معه أيضاً واقعة صفين حيث أنه كان من خلال بسالته وإقدامه تفرّ من أمامه الأبطال، وقد أراد أحد المخالفين إيقاع الفتنة بين ابن الحنفية وأشقائه الحسن والحسين من خلال قوله له : «إنما يريد علي تجنيب المكاره عن الحسن والحسين ورميك فيها، فكان ردّ محمد ابن الحنفية عليه : الحسن والحسين عيناه وأنا يمينه، وإنما يدافع عن عينيه بيمينه ، وبهذا الجواب أفحم وأخرس ذلك الفتان. لهذه الأسباب وغيرها، كان أبوه الإمام علي يعتمد عليه في الكثير من الحروب التي خاضها رغم صغر سنه .
تزوج محمد ابن الحنفية من السيدة أم عون بنت محمد بن جعفر الطيار بن أبي طالب، ويقال لها أم جعفر، وقد روت عن جدتها أسماء بنت عميس ، واختلفت الروايات بعدد أولاده، إلا أنه من المعروف بين المؤرخين أن ذريته كانت من ولديه : علي، وجعفر شهيد واقعة الحرة.
وكانت وفاته بحسب أغلب الروايات في العام 80 أو 81 للهجرة. واختلف في مكان دفنه بين مكة أو المدينة أو الطائف أو في مصر؟؟ ولنا وقفة مع هذا الأمر بشيء من التفصيل في السياق.
على الرّغم من وضوح شرف نسب ابن الحنفية، وعلمه وتقواه وشجاعته، وإخلاصه الله ولرسوله ولوالده أمير المؤمنين، وللأئمة من بعد ذلك أشقاؤه الحسن والحسين ومن بعدهم الإمام زين العابدين بالرغم من كل ذلك ما تزال هناك حالة من الغموض أو التشويش المفتعل حول طبيعة دوره في حركة نهضة الإمام الحسين ال !!
وفي الآتي من الكلام ما يؤكد عدم صحة هذا التشويش، بل على العكس منه أي أن ابن الحنفية كان من أشد الناس التزاماً بأخيه الحسين الله .
ولتبيان هذا الأمر وحقيقته، سنبين وباختصار شديد حركة نهضة الإمام الحسين من بداياتها، حتى مرحلة ما بعد استشهاد الإمام الحسين وعودة موكب السبايا إلى المدينة المنورة، لنفهم طبيعة الدور الذي قام به ابن الحنفية تركيا الله، بعد وفاة معاوية بن أبي سفيان وعقد البيعة بالحكم ليزيد ابن معاوية، أمر الأخير واليه على المدينة أخذ البيعة له من الحسين ال رغماً عنه، فإن أبى ذلك فلتضرب عنقه . وبعد محاولات والي المدينة المتكررة لهذا الأمر، وإصرار الإمام الحسين على الرفض من خلال مقولته المشهورة ومثلي لا يبايع مثله، عزم الإمام الحسين على الخروج من المدينة إلى مكة مع بنيه وبني اخوته وجلّ أهل بيته، فوصل خبر خروج الحسين إلى محمد بن الحنفية الذي كان مريضاً، فأتى الحسين وقال له: يا أخي أنت أحب الناس إليّ وأعزهم علي، ولست أدخر النصيحة لأحد من الخلق إلا لك، وأنت أحق بها ، تنح ببيعتك عن يزيد بن معاوية وعن الأمصار ما استطعت، ثم ابعث برسلك إلى الناس، فإن بايعوك حمدت الله على ذلك، وإن اجتمعوا على غيرك لم ينقص الله بذلك دينك ولا عقلك، ولم تذهب مروءتك ولا فضلك، وإني أخاف عليك أن تدخل مصراً من هذه الأمصار فيختلف الناس بينهم، فطائفة معك وأخرى عليك فيقتتلون، فتكون لأول الأسنة غرضاً، فإذا خير هذه الأمة كلها نفساً وأباً وأماً أضيعها دماً وأذلها أهلاً .
فقال الحسين : فأين أذهب ؟ قال : تنزل مكة فإن اطمأنت بك الدار وإلا لحقت بالرمال وشعب الجبال، وخرجت من بلد إلى آخر حتى تنظر ما يصير . إليه أمر الناس فإنك أصوب ما تكون رأياً وأحزمه عملاً، حتى تستقبل الأمور استقبالاً ولا تكون الأمور أبداً أشكل عليك منها حين تستدبرها إستدباراً . فقال الحسين : يا أخي لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية .
فقطع محمد بن الحنفية كلام الحسين بالبكاء.
فقال له الحسين : يا أخي جزاك الله خيراً لقد نصحت وأشرت بالصواب، وأنا عازم على الخروج إلى مكة وقد تهيأت لذلك أنا وإخوتي وبنو أخي وشيعتي أمرهم أمري ورأيهم رأيي. وأما أنت فلا عليك أن تقيم في المدينة فتكون لي عيناً عليهم لا تخفي عني شيئاً من النبوي.
وقام الحسين من مجلسه مع أخيه ودخل المسجد وقبل خروج الإمام الحسين من المدينة كتب وصية ودفعها إلى أخيه ابن الحنفية، وقال فيها : بسم الله الرّحمن الرّحيم، هذا ما أوصى به الحسين بن علي إلى أخيه محمد ابن الحنفية، أن الحسين يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً . ورسوله جاء بالحق من عنده وأن الجنة حق والنار حق والساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور. وإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي ، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم وهو خير الحاكمين . وهذه وصيتي إليك يا أخي وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه
أنيب. ثم طوى الكتاب وختمه ودفعه إلى أخيه محمد ابن الحنفية له .
وفي رواية أخرى : أن ابن الحنفية وصله خبر أن الحسين قد تهيأ للخروج من المدينة وقد أوشك موكبه على التحرك، فأقبل عليه ابن الحنفية وأخذ بزمام ناقة الحسين وهو يبكي، وقال له : ألم تعدني النظر في ما سألتك؟ فما حداك على الخروج عاجلاً؟ فرد عليه الحسين قائلاً : لقد جاء رسول الله بعدما فارقتك وقال لي : لقد شاء الله أن يراك قتيلا ، فاسترجع ابن الحنفية وقال : إذا كان الأمر كما تقول، فما معنى حملك للنساء وأنت تخرج لهذه الغاية؟ فقال له : «لقد شاء الله أن يراهن سبايا وعيناه تنهمر بالدموع والألم يحز في قلبه ونفسه وسلّم على أخيه وانطلق تلقاء مكة المكرمة.
وفي هذه الأحداث التي نقلناها آنفا جرت في المدينة المنورة قبيل الخروج منها إلى مكة، أما بعد وصول الحسين إلى مكة وقبيل خروجه منها إلى العراق لحق به أخاه ابن الحنفية إلى مكة ودار بينهما هذا الحوار الذي نقله ابن طاووس عن الإمام الصادق : قال : جاء محمد بن الحنفية إلى الحسين في الليلة التي أراد الحسين الخروج في صبيحتها من مكة، فقال له: يا أخي، إن أهل الكوفة من قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك، وقد خفت أن يكون حالك كحال من مضى، فإن رأيت أن تقيم فإنك أعز من بالحرم وأمنعه .
فقال له الحسين : يا أخي قد خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية بالحرم ، فأكون الذي يستباح به حرمة هذا البيت. فقال له ابن الحنفية فإن خفت ذلك فصر إلى اليمن أو بعض نواحي البرّ، فإنك أمنع الناس به، ولا يقدر عليك أحد.
فقال الحسين : أنظر في ما قلت» وسلّم عليه ومضى . وفي هذه الرواية المتقدمة دليل : إضافي على لهفة وخشية محمد ابن الحنفية على شقيقه الإمام الحسين ، حيث خرج من المدينة والتحق به في مكة للاطمئنان على أحواله، وللتعرف إلى ما عزم عليه
الحسين .
أما بعد استشهاد الإمام الحسين، وعودة ركب السبايا إلى المدينة المنورة، ووصول هذه الأخبار إلى ابن الحنفية، يتجلى موقف محمد ابن الحنفية بشكل صارخ وواضح، حيث نقل الطبري عن أبي مخنف، قوله : أقبل علي بن الحسين بن علي مع السبايا إلى المدينة، فبلغه خبر أخيه وما حصل له وكان ابن الحنفية يتوضأ في طست من نحاس فأخذت دموعه تنهال في هذا الطست حتى سمع صوت وقوعها
فيها. وفي رواية أخرى أغشي عليه من شدة الجزع على مصاب أبي عبدالله الحسين . وبالمحصلة العامة، يتضح معنا جلياً معذورية بقاء ابن الحنفية في المدينة بسبب مرضه من جهة، ولإذن الإمام الحسين له بالبقاء فيها ليكون له عيناً على أعدائه، وليكون ناشراً لأهداف النهضة الحسينية من خلال الوصية التي أودعها الحسين عنده،
وأخيراً من خلال تواجده مع الإمام زيـن الـعـابـديـن عـلـي بـن الحسين في استقبال المعزين بأبي عبدالله الحسين، وأيضاً من خلال إقراره ومبايعته للإمام علي بن الحسين (زين العابدين) بالإمامة. وبعد كل ذلك، هل يبقى أدنى شك في إخلاص وصدق ابن الحنفية رنيه ؟ أم هل هناك أي شبهة حول هذا الأمر؟ كلا ثم كلا .
إنه من آل البيت الطيبين الصادقين الطاهرين. فسلام عليه يوم ولد ويوم توفي ويوم يبعث حياً .
وفاته ومكان دفنه نقلنا آنفاً أن وفاة محمد بن الحنفية كانت في العام 80 أو 81 للهجرة النبوية الشريفة، وقلنا أن ولادته المباركة كانت في العام 20 أو 21 للهجرة، فيكون بذلك على حسب كلا الروايتين قد توفي عن عمر ناهز الستين من الأعوام.
أما عن مكان دفنه وسبب وفاته فإننا وجدنا اختلافاً كبيراً بين المؤرخين، ولم يقطع أحدهم برأيه ولم يجزم به، وهذا ما يترك ثغرة في تاريخ آل البيت النبوي الشريف بهذا الخصوص. فعن سبب وفاته رضوان الله عليه، لم نعثر على دليل قاطع حول طبيعة هذه الوفاة. هل كانت طبيعية على إثر مرض؟ أم استشهاد على إثر معركة أو ما شابه ذلك؟ وعلى كل حال، فالمعلوم أنه توفي في العام 80 أو 81 للهجرة.
أما عن مكان دفنه الشريف فقد اختلفت آراء المؤرخين بشكل كبير أيضاً. حيث ذهب البعض إلى القول بمكة، والآخر إلى القول بالمدينة، والآخر إلى القول بالطائف، وكل ذلك بدون دليل أو حجة حيث لم يثبت وجود قبر له أو مقام في تلك الأماكن، كما أنه لم يذكر له قبر أو مقام هدم أو اندرس في تلك البقع من الأرض أيضاً. والأغرب من كل ذلك قول فئة من الناس تعرف (بالكيسانية) أنه – أي محمد ابن الحنفية – لم يتوف بل هو حي وهو الإمام المهدي الذي سيخرج ليقيم العدل في الأرض.
وهذه الفرقة انقرضت (والله الحمد) لما في ذلك من تخريف على إرث النبوة وآل البيت، وتضييعاً لحقهم، وإنزالاً لقدرهم بين الناس. والله سبحانه هو الذي أعزّهم ورفع شأنهم وذكرهم، ومن كان شأنه ذلك، لن تستطيع الإنس والجن على الدنو من مقامهم الشريف، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً.
وهناك رأي جديد وموقف حديث يضاف إلى الآراء الأخرى، وإن كان برأينا هو الأقوى بحسب التدقيق .
فقد وفقنا المولى برك إلى الاهتداء إلى ضريحين منسوبين إلى محمد ابن الحنفية رضوان الله عليه في مصر. الأول: في جوار (قرافة) مقبرة الصحابي عقبة بن عامر الجهني، وتحديداً الضريح الملاصق لمشهد ذا النون المصري ورابعة العدوية، وسنتحدث عنهما بمقالات لاحقة بإذن الله . الثاني : في (قرافة) مقبرة باب الوزير الواقعة في جوار القلعة من الناحية السفلية على مدخل القاهرة القديمة، وفي آخر الطريق السوق السلاح) باتجاه القلعة على الجهة الشمالية.
وقبل الحديث عن هذين الضريحين والنتائج التي خلصنا إليها، نتوقف قليلاً للحديث عن الفرضية المنطقية المحتملة لوجود ابن الحنفية في مصر .
في كتابنا الصادر في العام 2017م والذي يحمل عنوان (مصر وآل البيت)، والذي جاء في طياته مقالة حول السيدة زينب لا ، بحيث ناقشنا في هذه المقالة كل الآراء التي تحدثت عن مكان دفنها الشريف، والتي انحصرت في ثلاثة آراء، إثنان منها اتفقت على سبب خروج السيدة زينب من المدينة المنورة. وسوف نعيد ذكر هذا السبب، لما له من ارتباط منطقي بمقالتنا الحالية أعني محمد ابن الحنفية له ، وبشيء من الاختصار والإجمال.
ذكر المؤرخون أنه بعد عودة موكب السبي إلى المدينة المنورة، ومعرفة أهل المدينة بما جرى على آل البيت من قتل وسبي وتتطواف بالرؤوس الشريفة، ضجّت المدينة بأهلها على الحكم الأموي وواليه
عليها آنذاك .
وشكل ذلك بداية التحرك الشعبي الساخط على السلطة الأموية وواليها، الذي أخذ يراسل يزيد ويستنجد به خوفاً على نفسه وعلى ولايته من غضبة الناس.
وخصوصاً مع وجود السيدة زينب التي كانت ترثي أخاها الحسين ، وتنوح عليه هي والهاشميات ونساء الأنصار في كل مناسبة وفي أغلب الأوقات. وساهم هذا الدور الزينبي في تأجيج
في المدينة المنورة.
المشاعر ضد السلطة الأموية، والتي أضحت عرضة للسقوط لا سيما لذلك أمر يزيد واليه على المدينة بنفيها منها، وإخراجها إلى أي بلد شاءت ما عدا مكة، فامتنعت السيدة زينب من الخروج، ولكن
نتيجة تدخل النساء الهاشميات وعلى رأسهن كانت زينب بنت عقيل ابن أبي طالب، وافقت على ذلك والألم والحزن يعتصرانها لمفارقة مدينة جدها صلوات الله وسلامه عليه .
وخرجت رضوان الله عليها بموكب مهيب، وتوجهت على أغلب الظن وبحسب استنتاجاتنا إلى مصر وخاصة أنها كانت تعرف مدى حبّ أهل مصر لآل البيت النبوي الكريم. وقد صحب السيدة زينب في
مجيئها إلى مصر من ذرية أهل البيت ا ل لكل من : السيدة فاطمة ابنة الإمام الحسين وأختها سكينة أيضاً . وسنتحدث لاحقاً وبمقالة خاصة عن مقام السيدة فاطمة ابنة الحسين المقطوع بصحة نسبه إليها في مصر، مع العلم بأننا قد أفردنا مقالة خاصة عن السيدة سكينة في الكتاب المذكور آنفاً . وذكرنا أيضاً، أنه كان على رأس المستقبلين لهم في مصر وإليها مسلمة بن مخلد الأنصاري مع جموع غفيرة من أعيان مصر وعلمائها ووجهائها، بالإضافة إلى الجماهير المسلمة والتي أرادت أن يكون لها شرف استقبال السيدة زينب .
وبعد حفاوة الإستقبال المشوب بالحزن على الحسين وأصحابه، أنزلها والي مصر هي ومن معها في داره، فنزلت بتلك الدار حيث كانت موضع إجلال وتقدير المصريين إذ كانوا يفدون إليها من كل
حدب وصوب متلمسين بركتها ودعواتها .
وتوفيت عام 62 للهجرة ودفنت في الدار التي نزلت فيها . وبناء على ما تقدم، وبالعودة إلى موضوع محمد ابن الحنفية رتله ، يكون الإحتمال المنطقي لتوجه ابن الحنفية إلى مصر هو أنه كان برفقة أخته وابنتا أخيه الحسين فاطمة وسكينة. فمن المعروف والمسلّم به لدى المسلمين والعرب مصاحبة النساء بالسفر من قبل محارمهم. ولا يدعوهن يخرجن أو ينتقلن لوحدهن من دون حمي . وخاصة إذا ما عرفنا وبالأدلة التاريخية أن ذرية محمد ابن الحنفية بأغلبها سكنت وعاشت وتوفيت في مصر، وهذا ما أكد عليه ابن عنبة في كتابه (عمدة الطالب حيث قال : بنو محمد بن الحنفية قليلون جداً، ليس بالعراق ولا بالحجاز منهم أحد، وبقيتهم فبمصر وبلاد العجم (فارس)، وبالكوفة منهم بيت واحد . ويضيف في موضع آخر بالقول : وجمهور عقبه – أي محمد ابن الحنفية – ينتهي إلى عبد الله الملقب برأس المذرى)، والذي أعقب من تسعة رجال، منهم عيسى بن عبد الله وولد الحسن بن علي بن
عيسى، وكانت كنيته أبا علي، ويعرف بابن أبي الشوارب، وكان أحد الطالبين بمصر، وله أربعة أولاد ذكور.
وذكر أيضاً :
منهم الشريف الفاضل أبو علي أحمد كان في مصر. ومنهم: عبدالله ابن اسحاق يقال له: (ابن ظنك)، وهو اسم امرأة من الأنصار، وكان يشبه النبي . ومنهم : أبو عبد الله الحسين بن إسحاق الصابوني بن الحسن بن إسحاق، والذي غرق في نيل مصر، وله عقب».
هذا بالإضافة إلى قول علي باشا مبارك حول نسبة الضريح : إلى ولد محمد ابن الحنفية. وسيأتي معنا بيان هذا القول في السياق.
كما أن ابن الزيات في كتابه الكواكب السيارة)، ذكر مقبرة خاصة تعرف بتربة بني المنتجب ابن علي بن أحمد بن ظاهر العلوي، وهؤلاء الأشراف يعرفون بالعلويين من نسل محمد ابن الحنفية.
لهذه الأسباب وغيرها، يقودنا التحليل والاستنتاج إلى وجود محمد ابن الحنفية في مصر، وخاصة مع وجود ضريحين ينسبان له، بالإضافة إلى ما تقدم ذكره من قدوم السيدة زينب إلى مصر وعلى الأغلب برفقة شقيقها محمد بن الحنفية . أما بالنسبة للضريح الأول وهو القريب من ضريح الصحابي عقبة بن عامر الجهني، والملاصق لقبر ذو النون المصري، فهو على الأرجح وبعد التحقيق المباشر، وكما ذكر ابن الزيات وعلي باشا مبارك، هو لأحد أبناء محمد ابن الحنفية من ذريته . وقد وفقنا بالكشف على هذا الضريح كما تظهر الصور المرفقة ووصلنا بالاستنتاج إلى ما ذكر أعلاه، أي أن الضريح يعود لأحد ذرية ابن الحنفية وليس له. ولم نستطع تحديد هوية صاحب الضريح لسببين: الأول، ما قام به صلاح الدين الأيوبي من هدم للقبور والمساجد التي بنيت في العهد الفاطمي، كما ذكر ذلك علي باشا مبارك في الخطط التوفيقية.
والثاني: الترميم الجديد الطارئ على هذه الأضرحة والتي كانت فوضوية إلى حد ما، حيث أخفت معالم الشاهد أو الرخامة على الضريح بحيث لا يمكن الوصول إليها إلا من خلال إعادة النبش، وهذا ما لا نقدر عليه وغير مسموح لنا بذلك .
أما الضريح الثاني فهو الذي بقرافة (مقبرة) باب الوزير أسفل القلعة .
وبالاستنتاج وبعد التحقيق بشكل مباشر كما يظهر بالصور المرفقة، يمكن القول بأنه يعود وبنسبة كبيرة أو لا بأس بها إلى محمد ابن الحنفية له ، وللأسباب التالية :
أ – تعتبر مقبرة باب الوزير من أعرق وأقدم المقابر في القاهرة بالإضافة إلى قرافة (مقبرة) الصحابي عقبة بن عامر الهجني. ووجود ضريح ينسب إلى ابن الحنفية فيها يتوافق زمنياً ومنطقياً مع ذلك .
ب – نتيجة لقدم هذه المقبرة فإنها ولا شك قد تعرضت للتخريب على أيدي الأيوبين بعد زوال الدولة الفاطمية، مما ساهم في طمس المعالم فيها، أو حتى هدم القباب التي كانت عليها، الأمر الذي جعل تحديد هوية أصحاب هذه الأضرحة متعذر حتى على الذين اهتموا بتدوين التاريخ والآثار الإسلامية. ناهيك عن الشدة التي مورست بحق الفاطميين وأتباعهم بعد زوال دولتهم، بحيث كان الناس يخشون من السلطة الأيوبية الجديدة وهذا ما يدفعنا إلى الإعتقاد بتعمد إخفاء
ضريح ابن الحنفية من قبل الموالين والمحبين، حتى لا تطاله أيدي التخريب والعبث .
ج – وجود هذا الضريح في عمق المقبرة بحيث لا يمكن الإهتداء
إليه بسهولة حتى مع المساعدة من قبل أهالي المنطقة، بل إن الأمر
يحتاج إلى عناء شديد للوصول إليه في وسط الأحواش المعروفة (بسكة الوداع)، وإنما وفقنا الله للإهتداء إليه بواسطة أحد أبناء (التربي) الذي كان يعمل في هذه القرافة منذ أمد بعيد، ولقد انتقل هذا الحاج إلى رحمة الله، وبالتالي انتقلت معرفة هوية أصحاب الأضرحة إلى ابنه هذا المرفق صورته برفقتنا داخل المقبرة أو القرافة.
د – وجود رخامة كانت على الضريح تحدد هوية صاحبه، انتزعت
عنه ووضعت على باب المقام كما هو واضح بالصورة المرفقة، وهي
تتحدث وبوضوح أن هذا : هو مقام سيدي محمد ابن الإمام علي أخو
الحسن والحسين والمشهور بابن الحنفية المتوفي عام 80 للهجرة
النبوية، وهذا ما يتوافق مع ما ذكره المؤرخون بشكل دقيق.
هـ – عناية أبناء الطريقة الصوفية المعروفة (بالأحمدية)، نسبة إلى
مؤسس هذه الطريقة سيدي أحمد ابن إدريس بهذا المقام الشريف، من
خلال وضع الجداريات داخل المقام والتي تترجم وتحدد هوية صاحبه
محمد ابن الحنفية ه . كما من خلال إقامة المراسم السنوية بذكرى ولادته وتوزيع الطعام وما شابه ذلك.
و – إشارة علي باشا في (خطته) إلى وجود ضريح في هذا المكان ينسب وبحسب قوله إلى محمد زين العاقلين ولم يترجم له ولم يشرح شيئاً عن صاحب هذا المقام، بل اكتفى بالقول: أن المقريزي ذكره قرب الجامع قوصون، وهو المعروف حالياً بجامع باب الوزير، وهذا يؤكد على قدم هذا الضريح واشتهاره أثناء الحقبة العثمانية وفترة حكم الأسرة العلوية (محمد علي باشا).
ز – إن المشتغل بالتراث الإسلامي وخاصة في مصر، يعلم أن لدى المصريين نزعة نحو النعوت ،والألقاب، بحيث يمكن إطلاق لقب أو نعت على أي كان فيصبح ملازماً له ولا يعرف إلا به، مثال ذلك:
مقام سيدنا العجمي والذي هو مقام مالك ابن الحارث الأشتر النخعي له ، أو سيدنا البدوي الذي كان يرتدي ثياب البدو فنعت بذلك واصبح اسمه، والمرسي أبو العباس، وسيدنا الدسوقي وغيرهم الكثير، وسنفرد مقالات خاصة عن هؤلاء الكرام بإذنه تعالى. ولا يسعنا قبل الختام إلا ترديد قوله تعالى كما في سورة هود / آية 73 و رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ .
وفي الختام نُشير إن نعت محمد بن الحنفية (بزين العاقلين) إنما اعتمدناه نقلاً عن علي باشا مبارك في خططه، كما أننا وانسجاماً مع المنهج الذي أشرنا إليه في مقدمة الكتاب، نشير إلى بعض أهم
المراجع والمصادر التي اعتمدنا عليها في بحثنا هذا، منها :
1 – تاريخ الطبري
2 – الكامل في التاريخ
3 – الكواكب السيارة
4 – الخطط التوفيقية
5 – عمدة الطالب
للطبري
لإبن الأثير
لابن الزيات .
لعلي باشا المبارك.
لابن عنبة .
6 – اللهوف في قتلى الطفوف لإبن طاووس .
7 – مقتل الحسين
8 – مثير الأحزان
لعبد الرزاق المعترم .
لابن نما الحلي.
9 – نور العين في مشهد الحسين للإسفرايني .
محمد ابن الحنفية
10 – المجالس السنية
11 – مقتل الحسين
12 – الدروس البهية
للسيد محسن الأمين .
لأبي مخنف .
للسيد اللواساني .
13 – من وحي الثورة الحسينية للسيد هاشم معروف الحسني .
14 – مقاتل الطالبيين
15 – مصر وأل البيت
لأبي الفرج الأصفهاني
وغيرهما الكثير من المراجع والمصادر التي لا يمكننا إيرادها خشية
الاطناب . وآخر دعوانا ان الحمد لله ربّ العالمين.

# من

كتاب مصر وذرية محمد (ص) والصحابة والأولياء

شاهد أيضاً

الشيخ شادي مرعي

شادي مرعي يوقع موسوعة سليمان الاحمد برعاية الشيخ قدور السبت في اليسوعية

شادي مرعي يوقع موسوعة سليمان الاحمد برعاية الشيخ قدور السبت في اليسوعية إصدار علمي وفكري …