مصر وكنوزها الحضارية والإنسانية
# المفكر الدكتور احمد قيس
إن الحديث عن مصر لا ينفك عن الحديث بالتاريخ، فمصر والتاريخ مترادفان بحيث لو تحدثت عن مصر فإنك سوف تبحر وتغوص في غمار التاريخ، وإن اشتغلت بالتاريخ فستمر حكماً بمصر .
فهذه الميزة الخاصة لمصر جعلت منها موضع اهتمام الباحثين في التراث الإنساني، وموقع تقاطع للحضارات العريقة عبر التاريخ الطويل
والمجيد.
كما أنها شكلت عبر التاريخ الملاذ الآمن والحضن الدافئ لأبنائها والقاطنين فيها، والمهاجرين إليها . لذا استحقت وبجدارة أن تسمى ) «أم
الدنيا » .
وكلمة (الأم) باللغة تطلق على معان متعددة منها على سبيل المثال : المكان الذي يجتمع فيه الناس من كل ناحية : كما في تسمية مكة المكرمة بأم القرى، وقد ورد هذا المعنى في سورة الأنعام الآية 92، والشورى الآية 7 والقصص الآية 59 وتطلق أيضاً على أعلى مقدمة الرأس والتي تعرف بالناصية)، كما في قوله تعالى في سورة القارعة الآية 9: ﴿فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ .
وتطلق أيضاً على المرأة (الوالدة) التي لديها ولد أو أولاد.
وغيرها في قوله تعالى في سورة القصص الآية :7 وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى … من الآيات المباركات وتطلق أيضاً على المقدم بين الناس، كما في قوله تعالى في سورة الإسراء الآية 71 : ﴿يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسِ بإممهم … وغيرها من الآيات وذلك على اعتبار أن كلمة الإمام مشتقة من (أمّ) أي تقدم.
ويوجد أيضاً معان أخرى لكلمة (الأم) لا سبيل لإستعراضها كلها
أن
في هذه العجالة، ويكفينا ما مرّ معنا للدلالة على المطلوب، وهو قد حازت على معظم المعاني التي تقدم الحديث عنها بشكل من الأشكال. وهذه بعض الشواهد والأمثلة على ذلك :
ففي الجانب الحضاري عرفت مصر أعرق الحضارات البشرية والمتمثلة بالحضارة الفرعونية والتي استمرت ردحاً طويلاً من الزمن، ولم تزل تلقي بظلالها على كافة الحضارات المعاصرة بخلاف العديد من الحضارات الغابرة، والتي انطمست معالمها ولم تعد موجودة أو مذكورة إلا في أمهات الكتب التاريخية. وقد كانت نشأة هذه الحضارة الفرعونية سابقة للعديد من الحضارات كما أنها تزامنت مع غيرها، إلا أنها استمرت هي بشواهدها وآثارها في حين ضاعت معظم معالم الحضارات الأخرى.
وفي زمن الحضارة الفرعونية كان العالم بحدوده القديمة والمعروفة يتألف من مجموعة حضارات تتوزع في أرجاء الأرض. حيث أن الحضارة الصينية كانت منتشرة في الشرق الأقصى والى جوارها كانت الهند بحضارتها القديمة، والى الشمال الشرقي منها كانت الحضارة
مصر وكنوزها الحضارية والإنسانية الفارسية العريقة، والى الغرب البعيد عنها نشأت الحضارة الرومانية على أنقاض الحضارة اليونانية .
أما الحضارة الفرعونية فقد كانت منتشرة على أرجاء القارة الإفريقية بالإضافة إلى جزء كبير من القارة الآسيوية.
والمعروف لدى المشتغلين بالتاريخ أن هذه الحضارات انحصرت ثلاث منها : الفرعونية والفارسية، والرومانية. وبقيت باقي المناطق عرضة للتجاذب والصراعات بين هذه الحضارات الثلاث، وشكّلت الحضارة الفرعونية الركن الأساس بين هذه الحضارات، تليها الحضارة الفارسية لجهة الأهمية، وأخيراً الحضارة الرومانية، والتي بسطت نفوذها لفترة من الزمن على بعض المناطق الخاضعة للفراعنة لا سيما الإسكندرية والتي حملت اسم الإسكندر المقدوني .
والذي ميّز الحضارة الفرعونية عن غيرها أنها امتدت على مساحة واسعة جداً من الأرض، والتي كانت بمجملها تُشكّل مناطق أساسية ومركزية في حركة التجارة والتنقل بين أبناء ذاك الزمان. وبالإضافة إلى أنها كانت منتشرة في مناطق حيوية وعلى أراض خصبة زراعية وغنية بالموارد المائية وغيرها . هذا بالإضافة إلى بعدها النسبي عن مناطق الحضارة الفارسية والرومانية، والتي كانت الصراعات في ما بينها على أشدّها معظم الأوقات. فهذه البيئة الإيجابية المتنوعة ساهمت إلى حدٍ كبير بنمو هذه الحضارة وترسخها . أما باقي المناطق كبلاد ما بين النهرين فقد كانت تشهد تقلبات متعددة من الحضارة السومرية إلى البابلية والآشورية، ولم تشهد هذه المناطق نوعاً من الاستقرار إلا في زمن الحضارة الإسلامية. وأما شبه الجزيرة العربية فإنها كانت تعيش حالة القبائلية المتنازعة ولم يكن يجمعها آنذاك وحدة مركزية يصح إطلاق تسمية حضارة عليها . بل على العكس من ذلك فإن العرب لم تتشكل الحضارة لديهم إلا بعد الإسلام. فالإسلام هو المُنشئ للحضارة العربية ولم ينتشر في ظل حضارة قائمة ذات معالم واضحة تجمعها مركزية ومفاهيم موحدة . ناهيك عن أن معظم هذه الحضارات بما فيها الديانات السماوية الثلاث كانت متأخرة عن زمن الحضارة الفرعونية . والشواهد والآثار التاريخية خير دليل على هذا .
وبناءً على ما تقدم تكون الحضارة الفرعونية بحسب هذا السياق التاريخي متقدمة على الجميع، وتعتبر بحسب ما وصل إلينا هي ا الحضارات. والاكتشافات الأثرية التي يماط عنها اللثام يوماً بعد يوم ولتاريخنا هذا يؤكد على عمق هذا المعنى وصحته .
والحضارة بمفهومها العام هي عبارة عن مجموعة من المبادئ والقيم والعلوم والإنجازات التي حازتها مجموعة بشرية في رقعة جغرافية محددة ولمدة زمنية معينة . وهذا ما يمكن تلمّسه في الحضارة الفرعونية القديمة بوضوح شديد، كما في الهندسة المعمارية والأهرامات شواهد على هذا المستوى الهائل والمتقدم حيث لم يستطع العلماء في وقتنا الراهن من فهم ألغاز وأسرار هذه العمارة الهندسية، مع ما وصلوا إليه من تسخير للتقنيات الحديثة المتنوعة. وفي الطب ما زالت أسرار التحنيط وحفظ الجثامين لغزاً يحيّر الأطباء والعلماء ليومنا هذا بالإضافة إلى علم الفلك الدقيق والرياضيات والزراعة وما شاكل ذلك، وفق إدارة مركزية متماسكة تتحرك وفق منظومة مبدئية تعتمد الترابط بشكل هرمي يترأسه الفرعون بما يمثل من صفة معنوية لأبناء هذه الحضارة. ومن المعروف أن الحضارة الفرعونية والفراعنة آمنوا بالحياة الأخرى بعد الموت وجدارية المحكمة المنقوشة داخل أحد الأهرمات تشرح هذا المعنى بشكل جلي . وبحسب التعريف السابق لمفهوم الحضارة، نجد أن كافة عناصرها كانت متوافرة عند الفراعنة لذا صح نعتها بالحضارة الفرعونية العريقة .
ومنذ الأيام الأولى للإسلام برز اسم مصر في الوجدان الإسلامي، وذلك بعدما تزوج النبي : من مارية القبطية والمشهورة بإم إبراهيم أم المؤمنين رضوان الله عليها، ومن . خلال وصيته للمسلمين بالعناية بأهل مصر – وستمر معنا لاحقاً في السياق -، وفي عهد الخليفة عمر بن الخطاب فتحت مصر وعلى أغلب الروايات صلحاً، وبعد ذلك انتشر الإسلام بربوع مصر بشكل سلس. وفي عهد الخليفة عثمان بن عفان ثار أهل مصر على والي الخليفة لشدّته عليهم وتوجهوا إلى المدينة لشكاية هذا الوالي عند الخليفة . وفي عهد الإمام علي عين على مصر ولاة ثلاثة: سعد بنعبادة، ومحمد بن أبي بكر، ومالك الأشتر . بعدها تسلط عليها عمر بن العاص قبل أن تنتقل إلى السلطة الأموية المروانية، ومن بعدها العباسية، والطولونية، والإخشيدية، وصولاً إلى القائد جوهر ممثل الدولة الفاطمية، ومن بعده الدولة الأيوبية، والمماليك، وبعدها الدولة العثمانية والتي استقل بها محمد علي باشا ليؤسس الأسرة العلوية، ويُنشئ فيها نهضة عمرانية وصناعية وزراعية حتى لقب بباني مصر ومنشئ نهضتها . وسنتكلم عن هذا الموضوع بشيء من التفصيل في مقالة (محمد علي باشا). وقبل ذلك غزاها نابليون، ومن بعده جاء الاستعمار البريطاني، في ظل الحكم الملكي الذي انتهى بما يعرف بثورة الضباط، والذين أسسوا نظاماً قائماً على الفكر القومي العربي الاشتراكي، وصولاً إلى عهد الرئيس أنور السادات الذي تحوّل النظام بعهده إلى نظام ديموقراطي برلماني واستمر كذلك حتى يومنا هذا . هذا في الجانب التاريخي بشكل عام ومختصر، أما في الجانب الإنساني فإن رجالات مصر أغنوا العالم بالفكر والثقافة في كافة الميادين، ولا يمكننا إحصاء أسمائهم في هذه المقالة ولكن يكفي الإشارة إلى البعض منهم على سبيل المثال لا الحصر، كإبن الشاطر (الفلكي)، وابن الهيثم الذي كان أول من اشتغل بفيزياء الضوء، والدميري صاحب كتاب حياة الحيوان ومحمد عبده، وطه حسین، وذا النون المصري، وغيرهم الكثير بالإضافة إلى العديد . الذين ولدوا خارج مصر وهاجروا إليها واستوطنوها وبرزوا فيها، منهم على سبيل المثال : الإمام الشافعي، ومحمد الزبيدي صاحب قاموس من العلماء تاج العروس، وجمال الدين الأفغاني، وابن الفارض، ومحمد المرسي، أبو العباس وغيرهم الكثير . ومن المعاصرين أمثال : الدكتور علي باشا مبارك، والدكتور أحمد زويل والمهندس حسن فتحي، والدكتورة
مصر مكاناً سعاد ماهر محمد، والدكتورة سميرة موسى وغيرهم الكثير أيضاً . أما لجهة أن مصر أم الدنيا)، فإنه لطالما شكلت . وواحة اجتماع والتقاء للعالمين العربي والإسلامي ليومنا هذا، بغض النظر عن بعض النزاعات السياسية التي تطرأ من حين إلى آخر بشكل إستثنائي ولاعتبارات خاصة مرحلية، لذا فإنه عند مراجعتنا للواقع العربي والإسلامي نجد أن معظم هذه الدول تشعر بحالة من اليتم نتيجة ابتعادهم أو ابتعاد مصر عنهم . وبتراجع دور الأزهر الشريف الذي كان يشكل الركن الوثيق للمؤسسة الإسلامية العالمية، والتي لطالما جسّدت الروح الإسلامية الجامعة لأبناء الدين الإسلامي الحنيف، برزت العديد من التيارات والجهات التي لا تفقه من الإسلام المحمدي الأصيل شيئاً . لهذه الأسباب وغيرها ندعو المولى ربك أن تعود هذه الأم إلى أبنائها، وأن يعود هؤلاء الأبناء إلى حضنها الدافئ. ويكفي مصر فخراً أن الله ربك ذكرها في كتبه السماوية التي أنزلها على أنبيائه، كذلك قول العلماء عنها والذي سطروه في مصنفاتهم العريقة، منها على سبيل المثال ما قاله جاسم عثمان مرغي في كتابه (الشيعة في مصر ) : ور، صور مصر بالمنظر الأنيق الخليق أن مصراً رواية الدهر، فاقرأ عبرة الدهر في الكتاب العتيق، وأيضاً ما نقله عبد المعطي المنوفي في كتابه (لطائف أخبار الأول) عن بعض الحكماء حول نيل مصر : كأن النيل ذو عقل ولُب لمـا يـبـدولـعـيـن الـنـاس مـنـه، فـيـأتـي حـيــن حاجتهم إليه ويمضي حـيـن يـسـتـغـنـون عـنـه وأورد ابن الزيات في كتابه الكواكب السيارة) عن ابن الكندي سبب تسمية مصر ، فقال : أن سبب تسميتها مصر لأن أوّل من سكن بها مصر بن بيصر بن حام بن نوح ، وهو ابو القبط بعد أن أغرق الله قومه، وأول مدينة عمرت بمصر (منف)، فسكنها ثلاثون نفراً من ولد نوح ، وكان أكبرهم ،مصر، ومنف بالقبطية (ماف) وتفسيرها كثيرة .
ثلاثون، وكانت إقامتهم قبل ذلك بسفح المقطم ونقروا هنالك بيوتاً وكان نوح قد دعا لولده مصر أن يسكنه الله الأرض الطيبة المباركة، التي هي أم البلاد وغوث العباد ونهرها أفضل الأنهار، ويجعل الله فيها أفضل البركات، ويسخّر الله لها جميع أهل الأرض. فسأله ولده مصر عنها فأخبره نوح بها ووصفها له، وكان مصر بن بيصر بن حام ابن نوح قد كبر سنه، وضعف أمره، فحمله ولده مع جميع إخوته إلى تلك المنطقة، فسكنوها وبذلك سميت على اسم وبالمناسبة، فلقد أهدانا الأديب والشاعر اللبناني الدكتور عبد ابن نوح الحافظ شمص قصيدة حول مصر وزيارتنا لها .
ومما جاء فيها :
مصر العزيزة
مصر العزيزة في الوجود هي !
للحياة والخلود تعلو قتلثم جيـدها الجوزاء في الـفـلـك الـبـعـيـد وتُصافح القمر المنير، ونيلها الحلم المجيد يحكي هناء الشعب في أرض الكنانة من جديد فيها مقامُ حُـسـيـنـنـا والـزيـنـب الـعـمـر الـمـديـد فيها مقام الأولياء الـقـانـتـيـن بلا حدود ألـمـؤمـنـون الـعـابـدون وخـيـر نـسـاك الـعُـهـود ذرية الحسن الأمين المجتبى، العقد الفريد والصالحاتِ الطاهرات وعترة السبط الشهيد.
مصر العزيزة قبلة الأحرار والـشـعـب الـرشـيـد
هي .
، جنةُ الكون الفسيح، منارة الشرق السعيد
هـي مـنـهـل للحب والإيمان والرأي الـسـديـد
مـن نـيـلـهـا شــرب الأنام وأزهـرت فـيـهـا الـورود
والنيل يزخر باللآلئ، بلسم الجرح العنيد ..
حُكّامها، عُلماؤها ومن الوليد إلى الحفيد
هم علموا الدنيا الحضارة والأمانة والصمود
یجود…
رسموا خطوط سلامها والله بالنُعمى يجـ أهرامها ، تاريخها والـمـجـد يـبـعـث مـن جـديـد
يا زائر الأرض التي قد زانـهـا الـذكـر الـحـمـيـد
بَسْمِل وكَبِّر واحتسب واستذكـر الـمـجـد الـتـلـيد «قيس أديب ألـمـعـي زارها ، لــقــي الـردود بـنـتـاجـه الـعـلـمـي والأدبي والـدر الـنـضـيــد قد حقق الأحلام، والعلماء في أرض الجدود. .
قدروا مكانةَ عِلمه ، أثنوا عليه بما يُريد…
عرف الأنام بمصر ما قد كان في كل العهود
في مصر قمـة مجـدنـا وبـكـل يـوم فـجـر عـيـد
يسمو فتزهر سيرتي، والقلب يختار المزيد مـصـر الـعـزيـزة قـبـلـتـي وعـن الـحـقـيـقـة لا أحـيـد
ستظل قاهرة المعز محجة العيش الرغيد..
وبعد كل ما تقدم، ألا يكفي مصر فخراً أنها أرض الأنبياء والصحابة والأولياء؟ ألا يكفيها عزاً أنها كانت مهد أعرق الحضارات الإنسانية؟ ألا يكفيها شموخاً أنها تحتضن في ترابها أضرحة الأنبياء والصحابة والأولياء والقديسين والشهداء والعظماء؟
ألا يجعل كل ذلك منها أرضاً طيبة مباركة وغنية بالكنوز الإيمانية
والثقافية والحضارية والعمرانية؟
مصر وكنوزها الحضارية والإنسانية
والجواب هو : نعم وألف نعم .
حفظ الله مصر وأهلها من عاديات الزمان، وزادها عزاً وكرامةً
وشموخاً، فلله درّها ودرّ أهلها الطيبين المؤمنين بالله وبأنبيائه وأوليائه
المقدسين، لا سيّما محمد بن عبد الله . وآل بيته الطاهرين وأصحابه
الأخيار المنتجبين . وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين
# من مقدمة كتاب مصر وذرية محمد (ص) والصحابة والأولياء