بزي حاضر عن كتاب “الفلسفة الإصلاحية” لرباب الصدر: أصالة الإنسان مشروع الإمام الصدر
ألقى الشاعر والروائي الدكتور محمد حسين بزي، الكاتب والمدير العام لدار الأمير، كلمة في الندوة الفكرية التي أقامها مركز الإمام موسى الصدر للأبحاث والدراسات في مقره بتاريخ 27 تشرين أول 2022 حول كتاب الدكتورة السيدة رباب الصدر الموسوم بعنوان “الفلسفة الإصلاحية في رؤية الإمام موسى الصدر”. وقد استوقفه قدرة المؤلفة المتميزة على هضم الأفكار الكبرى لمشروع الإمام الصدر تنويرًا ونهضةً، وتناولها إيّاها بابتكارات تحاكي الواقع والمعيش دون المساس بجوهرها الأصيل.
وهنا النص الكامل للكلمة:
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة على رسول الله وآله وصحبه الكرام.
الحضور الكريم فرداً فردًا، السلام عليكم جميعًا ورحمة الله وبركاته.
“الفلسفة الإصلاحية في رؤية الإمام موسى الصدر”، عنوان موسوم يشد الناظر فيشتد أزر البحث والتنقيب في هذا الكتاب الذي أتى دقيق العبارة غني الإشارة في صفحاته الـ 360، ورغم الضغط والضبط الذي تعرّض له الكتاب كونه أطروحة دكتوراه محدّدة ومقيّدة؛ إلّا أنّ المؤلِفة الدكتورة السيدة رباب الصدر استطاعت تطويع الخطاب الذي أحيانًا ما يكون جماهيريًا وعفويًا؛ استطاعت تطويعه وسكبه في قالب فكري دقيق المبنى وواسع المعنى حد أنك تجد نفسك قد دخلت إلى النص الكبير دون مباراة أو إطناب، وهذه بحدّ ذاتها مهارة عالية تسجل للكاتبة العزيزة.
وما استوقفني أكثر، القدرة المائزة للمؤلفة على هضم الأفكار الكبرى التي قام عليها مشروع الإمام الصدر تنويرًا ونهضةً، واستقلابها بابتكارات تحاكي الراهن والمعيش دون المساس بجوهرها المكين.
فالكتاب الذي توزع على ثمانية فصول يسبقها مقدمة وينتهي بخاتمة لا يمكن أن تصنفه إلّا تحت عنوان كبير هو أصالة الإنسان وكرامته؛ مهما تدافعت أقسامه أو تتابعت فصوله ومواضيعه، فعندما تقول المؤلفة صفحة 231 تحت عنوان من وحدة الخلق إلى وحدة المجتمع: “طاقة الفكر لا اندثار لها.. ولذا تحدث الإمام الصدر عن الأهمية وليس الأولوية إلخ..، فهذا يأخذنا إلى منظومة مالك بن نبي الفكرية عندما تحدث عن مفهومي الصحة والصلاحية في “شروط النهضة” و”مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي” والهوّة الحاصلة بين عالم الفكر وعالم التطبيق، وطبعًا هذا قياس مع الفارق، لكن كلاهما كان يعيش قلق الوجدان على أمته، محاولَا ملئ منطقة أو مناطق الفراغ الفكرية التي اتسعت مع الاستعمار، خاصة في محاولته اسقاط وتعويم منظومته الفكرية والأخلاقية على أمتنا كبديل عن قيمها الأصيلة تحت عناوين التقدّم والرقي والتطوّر، مستغلًا تفكّكها وانقساماتها لبثّ تلك الشعارات والبناء عليها بالثقافة والاجتماع والسياسة، بمعنى آخر محاولة مسخ الهوية الحضارية للأمة، وإفراغها من أهم عامل مؤثر فيها وهو الدين.
والمطبعة التي حملها معه نابليون في حملته العسكرية على مصر عام 1798م. لم تكن إلّا لسلاح الدعاية الذي يكسب به قلوب المصريين تحت عنوان تطوير العلوم ونشر المعارف، فكان عليه أن يعدّ العدّة لحملة من الدعاية يوطدها بمطبعة تساعده فيما يرمي إليه من أهداف بعيدة المدى.
وعليه، فإنّ الجرأة الفكرية التي اتسمت بها شخصية الإمام الصدر على غرار الآباء الكبار للإصلاح الديني؛ أمثال جمال الدين الأفغاني وإقبال اللاهوري كانت لافتة، بل أستطيع القول؛ إنّها فاقتهم جرأة وتحديًا للمسكوت عنه في السياسة والاقتصاد والاجتماع، وحتى في الأمور والمفاهيم الدينية التي كانت تستوجب الإصلاح في رأيه.
وكان للتربية والبيئة التي عاش فيها الإمام الصدر الدور الرئيسي في تكوين شخصيته وبلورة أفكاره، حيث كان لأبيه سماحة آية الله العظمى السيد صدر الدين الصدر الدور الأبرز، ففي بدايات خمسينات القرن المنصرم؛ وبعد تخرّجه من كلية الحقوق في جامعة طهران كأول معمم يدخل الجامعة، بدأ بالتواصل مع آية الله الكاشاني والسيد نواب صفوي رئيس حركة “فدائيان إسلام”، آنذاك، الذي كان يعقد، حسب ما تفضلت به السيدة رباب، اجتماعاته في منزل والده، وفي أواخر سنة 1959م. قدم إلى مدينة صور وبدأ نشاطه الديني والاجتماعي خلفًا للسيد عبد الحسين شرف الدين؛ واضعًا النواة الأولى لمشروعٍ تغييري كان يعتبره عالميًا على مساحة كلّ مكان يسوده الظلم والاستضعاف للإنسان، رغم انطلاقته الأولى من مدينة صور في جبل عامل.
وفي سنة 1969م. أطلق مشروعه المؤسساتي معطيًا المرأة دورًا محوريًا ضمن مشروعه الكبير، ومنذ سنة 1963م. بدأ حله وترحاله في كلّ من العالم العربي وأفريقيا وأوروبا التي شهد فيها حفل تنصيب البابا بولس السادس حيث عرض معه معاناة الشعب الإيراني، وطالبه بالتدخل للحفاظ على حياة الإمام الخميني الذي كان محكومًا يومها بالإعدام في ايران، وتحريره من سجنه. وفي سنة 1969م. تأسّس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى وانتخب رئيسًا له، وأعلن، الإمام الصدر،”أنّ الطوائف المتعدّدة في لبنان هي نوافذ حضارية على العالم”. ومع بداية الحرب الأهلية المشؤومة بذل كلّ مستطاع لوأد الفتنة حتى اعتصامه في مسجد الصفا احتجاجًا، ولم ينهِ اعتصامه إلّا وقد تشكلت حكومة لبنانية آخذة بمطالب الإمام الصدر، وفي نفس السنة أعلن عن انطلاق أفواج المقاومة اللبنانية “أمل” محذرًا من ثلاثة أخطار: التقسيم، الخطر الإسرائيلي ووجوب التصدي المسلح له، وخطر تصفية القضية الفلسطينية، معتبرًا في الوقت نفسه أن لبنان ضرورة حضارية للعالم، وأنّ السلام لقاء تاريخي محتوم بين الإسلام والمسيحية. وإثر الاجتياح الإسرائيلي سنة 1978م. كانت آخر جولات الإمام الصدر على الزعماء العرب، حيث انقطعت أخباره في ليبيا القذافي منذ 31 آب 1978م. وحتى الساعة.
كانت هذه البيوغرافيا المختصرة لمراحل مهمة في حياة ومشروع الإمام الصدر.
أما عن البنية المعرفية للكتاب فيمكنني تقسيمها إلى ثلاثة محاور رئيسة، وكلّ محور يمثل رافعة فكرية مهمة:
المحور الأول: أصالة الأخلاق في مشروع الإمام الصدر
المحور الثاني: البنية الفلسفية لمشروع الإمام الصدر
المحور الثالث: مشروع الإمام الصدر الديني وأثره في بناء إنسان حرّ ووطن مستقل.
وكي لا أطيل عليكم وبما أن الأستاذ الدكتور حبيقية قد تفضلّ إلى حدّ ما بشرح مفهوم الأخلاق، أو تطرق إلى مفهوم الأخلاق ومصداقيتها في عمل الإمام السيد موسى الصدر فإني سأتجاوز المبحث الأول وأنتقل مباشرةً إلى المبحث الثاني وهو البنية الفلسفية لمشروع الإمام الصدر.
أصالة الأخلاق في مشروع الإمام الصدر
يؤصل الإمام الصدر مشروعه الديني في بلاغ رسالة السماء على مرتكزات ثلاثة: الإيمان، الأخلاق، والأحكام المقرّرة في القرآن الكريم والسنّة الشريفة، معتبرًا أنّ الإيمان بالله سبحانه هو ثقة وطموح وأمل، وأنّ هذا الإيمان هو الذي يوصل الموت بالحياة، كما أنّه يمدّد وجود الإنسان ليستمر العطاء في موكب الحياة.
ولما كان التوحيد والنبوة والمَعاد فضلًا عن الإيمان بالله وملائكته ورسله من بديهيات الاعتقاد؛ فإنّ الإمام الصدر ركّز على الأخلاق وإعادة بناء مفاهيمها على درجة سمو الإنسان وجماله وسعيه نحو الكمال، معتبرًا أنّها غاية الإسلام وجوهره الأصيل في مصداق قول النبي الخاتم (ص): “إنّما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق”، مسبوقًا بقوله تعالى ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾، فعندما تتنشر الرحمة وتسود المعاملات بين الناس على كافة الصعد، فإنّ الأخلاق العملية تكون نتيجة حتمية لتلك الرحمة التي افتتح الله بها سور كتابه العزيز، بسم الله الرحمن الرحيم.
لقد نزل الإمام الصدر بتلك المفاهيم إلى الناس، ومشى بينهم كمثال حي للأخلاق في المعاملة والبلاغ، وكان مصداقًا تطبيقيًا للرحمة الإلهية في التعامل مع كلّ طبقات وأديان ومذاهب المجتمع اللبناني، حتى أصبح حديث الناس في تواضعه وإخلاصه، وإذا ما أردنا سرد الأمثلة الحيّة فإنّنا سنحتاج إلى ساعات وربما أيام وقد لا ننتهي.
أمّا من الناحية الفكرية، فإنّ الإمام الصدر يعتقد أنّ للأخلاق دورًا رئيسًا في بناء المجتمع السليم القادر على النهوض بمسؤولياته وفاعليته الحضارية، وإنّ الطاقة التي تنشرها الأخلاق هي بمثابة الحبل المتين الذي يشد أواصر اللحمة بين الناس في انتظام أمرهم نحو الخير والرقي والفلاح، خاصة إذا ما تمتعت النخبة من أطباء ومهندسين وعلماء ومفكرين ومثقفين بهذه الأخلاق التي تتحقّق في القدوة الصالحة لبناء مجتمع صالح، كما انّ هذه الفاعلية الأخلاقية تقصِّر الطريق أمام النخب في ممارسة المسؤولية الاجتماعية وتقبّلها والاقتداء بها من قِبل بقية الناس على قاعدة: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾. وبهذه الهمة وتلك الأخلاق سنّ قاعدة لم تكن مألوفة في زمانه وقال: “إنّ من واجب رجل الدين أن يذهب إلى الناس حيث هم، لا أن ينتظر الناس إلى أن يأتوا إليه.” وكان سلوكُه مرآةَ علمه، وهذا السلوك العملي بين الناس والتواضع لهم كان أكثر تأثيرًا وأثرًا من مئات الكتب في موضوعها.
ومن يتابع حركة الإمام الصدر سيعرف أنّ بواكير هذه الأخلاقيات قد تفتحت في عقله ووعيه وقلبه وهو لا يزال في الثالثة عشر من عمره عندما كتب في جريدة “استوار” سنة 1941م مقالًا بعنوان “إلى متى العذاب”، يقول فيه: “هل انتهت معاناة البؤساء والمحرومين وسكتت صرخاتهم..؟،، ويتابع: “ما أصمَّ آذانَ وقسوةَ قلوبَ مسؤولينا اليوم.. من الذي ينبغي له أن يرفع الظلم والحيف عن الناس..؟ وإلى متى يستمر هذا الإهمال والتهرّب من المسؤولية؟ ، وفي ضوء ذلك ينغي القول: “إنّ كلّ ما يأتي به العام الجديد يدعو للحسرة على العام الفائت”. أي فتى هذا، بل أي شاهد على عصر رضا شاه كان ولم يتجاوز الثالثة عشر من عمره، بل أي نابغة قد فطر على العدالة مدافعًا عن المحرومين والمستضعفين ولم يبلغ الحلم بعد؟؟ إنّ هذا المقال قد هزّني في أعماق وجودي كإنسان، حتى ارتجف الدم في عروقي؛ ورحت أصرخ معه من نير الاستبداد وفواجع الظلم في معاناة الإنسان، في ألمه، في جوعه، في كرامته المهدورة، في حقه المسلوب والمصلوب على ضميمة التاريخ الذي يكتبه السلطان الجائر، لكنّه موسى الصدر، والآن عرفته موسى العمر، عاش أعمارنا قبل نولد، فتكت به أوجاعُنا قبل أن نمشي الأرض ولا نطويها إلًا بكثير من الظلم المتعدّد الجهات والأنواع على مرأى هذا العالم المتوحش.
ومن صميم فلسفته الأخلاقية العملية أسّس الإمام الصدر لمفهوم رجل الدين المبادر بالمسؤولية الاجتماعية والسياسية، وهزّ السكون للجماعة الدينية المعاصرة له، الجماعة التي رأت في الدين محض طقوس وانزواء عن الواقع المعيش، كذلك هزّ الإقطاع السياسي الشيعي الذي بات يرى في الإمام الصدر تهديدًا مباشرًا لانقلاب جمهور الشيعة من الولاء للزعيم إلى الولاء للجماعة الجديدة التي يقودها الإمام الصدر صاحب المشروع الذي يحمل أهدافًا تغييرية جذرية ترتكز على المنهج الإسلامي الأصيل بمضمونه الديني والأخلاقي، وعبر مقاربات دينية جديدة للمسائل الفكرية التي كانت في واجهة المشهد الثقافي والاجتماعي والسياسي.
وهكذا أخذ الإمام الصدر بيد طائفته لتكون شريكًا فاعلًا ونِدًّا مشاركًا لبقية طوائف لبنان في الحقوق والواجبات، منطلقًا من فاعلية فلسفية إسلامية أساسها الأخلاق في بناء الفرد والدفاع عن حقوق الجماعة مناضلًا على محورين:
الأول: رفع الحرمان السياسي والاجتماعي والذي يشمل التربية والتنمية والتعليم، وإنصاف الشيعة في جميع فئات وظائف الدولة اللبنانية إسوة بإخوانهم من الطوائف الأخرى المكونة للبلد والنظام فيه.
الثاني: تنظيم شباب الشيعة للدفاع عن لبنان عامة والجنوب خاصة في وجه الاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة؛ فكانت أفواج المقاومة اللبنانية أمل، وحثّ أهل الجنوب على اقتناء السلاح والتدرّب عليه، ودعم القضية الفلسطينية والدفاع عنها دون التعارض ومصلحة لبنان، واعتبار تحرير فلسطين كلّ فلسطين واجب ديني ووطني وقومي، وأنّ إسرائيل شرّ مطلق، وأنّ التعامل معها والاعتراف بها تحت أي عنوان حرام شرعًا، معتبرًا هذا الحكم من صميم البنية الأخلاقية للإسلام حيث رفع الظلم وإحقاق الحق.
كلّ هذه الأفكار التجديدية، والجهود الفريدة وكلّ تلك النجاحات المصيرية كان حقّقها الإمام الصدر والمنطقة تحت ضغط ووطأة احتدام صراعات المصالح في دول المحيط والعالم، خاصة الانقسامات العامودية بين معسكري الشرق والغرب في محاولتهما السيطرة على المنطقة، وما أفرزته من تحالفات إقليمية معقدّة كانت الساحة اللبنانية صفيحها الساخن فاندلعت الحرب الأهلية عام 1975م. التي بذل الإمام الصدر الغالي والنفيس في سبيل إيقافها ولم يكن آخرها الصرخة المدوية التي أطلقها من اعتصامه واعتكافه في مسجد الصفا لمنع التقاتل الأهلي، وهذا من تجليّات الأخلاق في شخصية الإمام الصدر المنظّر الواعي والمفكر المسؤول والقائد الصلب ولو في ظل آتون تلك النيران التي بينّاها، أيضاً، هذه سمّة فريدة وبارزة جديرة بالدرس أكثر، ولا بدّ من التوقف عندها.
البنية الفلسفية لمشروع الإمام الصدر
لم يكن في مشروع الإمام الصدر منطقة للفراغ ولو على المستوى النظري بالمعنى الفلسفي للعبارة، فكان يرى أنّ للمسلمين فلسفة واضحة كاملة، ولها مواقف ثابتة في كلّ ما هو معيش ومنظور ومتوقع الحدوث، وليست، أي الفلسفة الإسلامية، ليست معتمدة على آراء اليونان إلّا بمقدار ما يعتمد الشيء على أصله، نعم، استفاد المسلمون من فلسفة اليونان عندما قاموا بترجمة وتعريب العلوم والمعارف اليونانية إلى العربية سيما في عهد المأمون العباسي وكانت دار الحكمة في بغداد، لكن لم تلبث هذه الحقبة كثيرًا إلّا واستطاع فلاسفة الإسلام هضم الفلسفة اليونانية وأعادوا انتاجها وبناءها، بل وتصحيح أفكارها مع الفارابي في كتابه الجمع بين رأيي الحكيمين أفلاطون وأرسطو وغيره، ثم مع ابن سينا وابن رشد وقاموا بتصدير هذه الفلسفة المصححة والمنظمة إلى الغرب عبر البوابة الأندلسية التي بقيت مشرّعة أمام الفكر وحاضرة للعلوم عشرات السنين، من هنا حصل التحوّل الكبير في الفلسفة مرورًا بابن عربي والسهروردي وصولًا إلى صدر المتألهين الشيرازي الذي تتلمذ على الشيخ بهاء الدين العاملي.
وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر كان لمناظرة رينان والأفغاني حول الإسلام والعلوم ما يفيد ويثبت ما أسّسنا له أعلاه، معطوفًا على ما أقرّ به الفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون من فضل المسلمين العرب العلمي على أوروبا.. أيضًا يمكننا الركون إلى ما أجاد بطرحه المفكر الفرنسي روجيه غارودي من الأفكار الفلسفية الإسلامية التي أسّست للنهضة العلمية في الغرب الحديث.
ولا يخفى تأثّر الإمام الصدر بفلاسفة الإسلام خاصة صدر المتألهين الشيرازي صاحب مدرسة الحكمة المتعالية المشيّدة على الفلسفة الإشراقية والمشائية والعرفان النظري وعلم الكلام، والقائلة بأصالة الوجود واعتبار الماهية، وأنّ الوجود حقيقة واحدة، وأنّ حلّ الكثير من المسائل الفلسفية والعقائدية يقوم على تحقّق الحركة في الجوهر، وهو ما عرف بالحركة الجوهرية، وهي واسطة العقد في منظومة الحكمة المتعالية. واعتبر ملا صدرا أنّ مسألة الوجود هي أسّ القواعد الحكمية، ومبنى المسائل الإلهية، والقطب الذي يدور عليه رحى علم التوحيد وعلم المَعاد وحشر الأرواح والأجساد.. وإنّ الجهل بمعرفة الوجود يسري إلى أمهات المطالب، ويفوت الجاهل خفيات المعارف وخبيئاتها، وعلم الربوبيات ونبواتها، ومعرفة النفس واتصالاتها، ثم رجوعها إلى مبادئها وغاياتها. وبما أنّ الوجود حقيقة واحدة، فإنّ الوجودات المتحقّقة في الخارج هي حقيقة واحدة أيضًا، لكن ذات مراتب مختلفة ومتمايزة بالشدّة والضعف والتقدّم والتأّخر وليست حقائق متباينة، وأنّ علم الله التفصيلي بالأشياء هو عين وجودها، فلا مؤثر في الوجود سوى الله سبحانه وتعالى.
ملا صدرا الذي يقول باتحاد العقل والعاقل والمعقول، أو العلم والعالم والمعلوم، معتبرًا أنّ النفس العاقلة تتحد بمعقولها، فالعاقل هو الذات، والمعقول هو ما تدركه النفس في مرتبتها العاقلة، حيث تدرك بهذه المرتبة الكليات في قِبال المرتبة التي تكون فيها النفس مدركة للجزئيات التي هي إمّا حاسّة أو متخيِّلة، واتحاد العاقل بالمعقول يأتي على سبيل المثال لا الحصر، فالمراد هو اتحاد هو اتحاد الحاس والمحسوس، والمتخَيَّل والمتخَيِّل، والاتحاد بينهما يكون باتساع الذات وتكاملها بالمدرَكات من خلال تشكيلها معه وجودًا واحدًا أشدّ درجة ممّا كان عليه قبل الاتحاد؛ وهذا خلاف رأي الشيخ الرئيس ابن سينا القائل: “إنّ جوهر النفس يبقى ثابتًا من الطفولة حتى الشيخوخة، بينما النفس عند ملا صدرا جوهر دائم الحركة في مراتب الكمال كمراتب النور في الشدة والضعف، وأنّ النفس حينما تتعقل شيئًا تصير عين الصورة العقلية لذاك الشيء، والتعقل عبارة عن اتحاد جوهر العاقل بالمعقول، وهنا يتضح أنّ كلّ عاقل إنّما هو عقل ومعقول، وكل معقول إنّما هو عقل وعاقل نظرًا إلى اتحاده مع العاقل.. وهكذا سوف تؤدي إرادة الإنسان دورًا مهمًا وأساسيًا لأنّ الحركة الجوهرية ليست ذاتية في العالم، بل هي تابعة لما تحصله إرادة الإنسان والسنن الطبيعية والعلم والعمل، وعلى قدر ما يجاهد الإنسان ويترقى في مراتب الكمال في الدنيا؛ فإنّه يحصل على النتيجة التي خلق من أجلها في الدنيا والآخرة.
ومن خلال هذه الدورة التكاملية يعتبر الإمام الصدر أنّ الحق سبحانه لا يكتفي بأن يكون خالقًا للكون فقط، بل هو معنا أينما كنّا، وحولنا في كلّ نشاطاتنا وأفعالنا ووجودنا، ومصداقه الحديث الشريف: “ما رأيت شيئًا إلّا ورأيت الله قبله وبعده وفيهما معًا”.
وهذه الرؤية الفلسفية التكاملية لمدرسة الحكمة المتعالية كان لها الفاعلية الأساس في حركة الإمام الصدر الاجتماعية، حيث ركّز على الدور التكاملي للإنسان في هذا الكون الشاسع، فكان يردم أية هوة وردت؛ أو قد ترد على مشروعه التغييري المبني على أصالة الإنسان وكرامته، وهنا نسجل نقطة بل ركيزة معرفية؛ أنّ الإمام الصدر بعد تمكّنه من الفلسفة الإسلامية بكافة مراحلها ومدارسها، خاصة مدرسة الحكمة المتعالية التي أسلفنا، استطاع تحويل هذه الفلسفة إلى رافعة فكرية في عملية التغيير التي كان يقودها على مستوى الفرد والجماعة، ويبقى السؤال: هل نزل الإمام الصدر بالفلسفة إلى مستوى الناس أو أنّه رفعهم إلى مستواها، الحقيقة أنّ الإمام الصدر بموسوعيته الفكرية والفلسفية وخلفيته العرفانية والفقهية والسياسية، مضافًا إلى ذكائه الاجتماعي وفطنته السياسية وشخصيته الساحرة؛ استطاع تحويل الخلاصات الفلسفية إلى كبسولات ناجعة وجرعات شافية خاطب بها الجماهير المتعطشة لعملية التغيير، وبذكائه وفطنته لم يتطرق في خطابه حتى إلى اصطلاحات الفلسفة.. بمعنى آخر، استطاع الإمام الصدر الإفادة من كلّ علومه ومعارفه خاصة الفلسفية وسيَّلها في خطاب بسيط ثائر لخدمة مشروع نهضوي تغييري على مستوى لبنان، إن لم يكن على مستوى العالم فيما لو بقيت شمسه بيننا لعشر سنوات أخرى لا غير.
المحور الثاني والأخير
مشروع الإمام الصدر الديني وأثره في بناء إنسان حرّ ووطن مستقل
على الرغم من تحدّيات العصر الذي عمل فيه الإمام الصدر، فإنّه لم يبرح منطقة ومنطق التوفيق بين العلم والدين وتلاقيهما في حقول شتى، منها الحقوق والاجتماع والتشريع والعقيدة والثقافة في تشييد منظومة فكرية متكاملة لبناء إنسان مسؤول في الشهادة على عصره ومتطلباته، ويواجه الصعوبات بعزيمة وثبات، وصولًا لبناء مجتمع فاضل تسوده العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية المرتكزة على القيم الإلهية، وانماز الإمام الصدر بإرسائه للمفاهيم الأخلاقية التي تحكم علاقة الإنسان بمحيطه، بدءًا من الوالدين والأسرة؛ وصولًا للمسؤوليات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتربوية والسياسية في أدق تفاصيلها، وقال في هذا السياق: “إنّني لا أحسب العمل السياسي أو الاجتماعي إلّا جزءًا من رسالتي الدينية، … وإنّ الإيمان بالله سبحانه وتعالى في تصوّري لا ينفصل عن الجهد في سبيل خدمة الناس”.
كان الإمام الصدر يتمتع بعقل نيّر، يحلّل الأحداث والتطوّرات تحليلًا علميًا دقيقًا، يمكِّنه من الوصول إلى رسم بياني يستطيع من خلاله تحديد مستقبل هذه الأحداث أو تلك التطوّرات على ضوء العناصر المؤثّرة في حركة الأشياء وتطوّرها.
ومن خلال عالمية الفلسفة التي يحملها الإمام الصدر لكرامة الإنسان وأصالته بغض النظر عن جنسه أو قومته أو دينه أو معتقده؛ فإنًه قسّم الصراع إلى فريقين أو جبهتين، جبهة الناس المقهورين والمعذبين والمستضعفين، وجبهة الظالمين والمستكبرين وتجّار الدين والفكر، وما كان من الإمام الصدر إلّا أن جعل من نفسه قدوة في اقتران الفكر بالعمل، فنزل إلى الشوارع وخطب في الميادين والساحات، مخاطبًا الناس الذين كانوا خارج وعي حقوقهم، أو خارج القدرة على المطالبة بحقوقهم.. كما يقول الشيح محمد مهدي شمس الدين رحمه الله، فجعلهم يتكلّمون، ولم يتكلّم عليهم ولم يختزلهم أو يختزنهم، بل أعطاهم أصواتًا يطالبون من خلالها برفع الحرمان ودفع الظلم، فليس المهم أن نعي حاجات الآخرين، بل الأهم أن نهب الناس ما يجعلهم يتحركون.
وهكذا انطلق مشروع الإمام الصدر في بناء إنسان حرّ كريم ووطن سيد مستقل عبر سلسلة أولويات بدأ بتنفيذها عمليًا، وهي:
كما جاء في كتاب الدكتورة السيدة رباب الصدر أولاً
– تنظيم شؤون المسلمين الشيعة في لبنان، وتحسين أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
– عدم التفرقة بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم، والقيام بدور إسلامي وحدوي فكرًا وعملًا وجهادًا.
– بث وتثبيت روح التعاون مع كل الطوائف اللبنانية في سبيل وحدة لبنان وسيادته والدفاع عنه، باعتباره وطنًا نهائيًا لجميع أبنائه، وأنّ تنوّع طوائفه وعيشها الواحد هو ضرورة حضارية للعالم.
– التصدي للمسؤوليات الوطنية والقومية والعالمية التي كان يراها من صلب عمله الديني.
– القيام بمحاربة الفقر والجهل والتخلّف والظلم الاجتماعي والسياسي، والفساد الأخلاقي.
– الدفاع عن القضية الفلسطينية ودعمها بكافة الوسائل المتاحة، والدعوة للمشاركة الفعلية مع كافة الدول العربية لتحرير فلسطين، وكافة الأراضي العربية المغتصبة.
معتبرًا أنّ السلاح الوحيد والأمضى في يد العرب هو وحدتهم، وأنّ السلاح الفعّال بيد العدو الإسرائيلي هو الفرقة والخلاف بين العرب.
كان الإمام الصدر يمتلك رؤية واضحة للصراع مع العدو، ولمحاولة وأد فتنة الحرب الأهلية اللبنانية، ولم يكتفِ بالوعظ وبيانات الشجب، بل قدّم حلولًا علمية وعملية، وطرح البدائل لكلّ أزمة حسب ظروفها، وكان يعمل بالممكن المتاح ولا يتوقف عن العمل بانتظار الحلول المثالية غير الواقعية، وقام بتجزئة العمل إلى مراحل ومحطات لحين الوصول إلى الأهداف المنشودة، محوِّلًا سلبيات أي عمل إلى فرص لنجاحه كما حصل في حادثة مخيم عين البنية واستشهاد 28 شهيدًا جرّاء انفجار عن طريق الخطأ، فذهب بنفسه لمعاينة المكان، كما كان يفعل في كلّ مناسبة أو حادثة، وكان عند كل نازلة يستعين بالمعطيات العلمية والإحصاءات الميدانية ليدرس كلّ مشكلة ويقدّم الحلول العملية لها.. وما برح الإمام الصدر ينتهج طريق العمل المؤسساتي المنظّم والمترابط لتقديم الخدمات وطرح الحلول، حتى قال فيه الرئيس جمال عبد الناصر كما نُقل: “يا ليت كان للأزهر رئيس كالسيد موسى الصدر”.
الإمام الصدر أيها السادة، الذي كان دون أدنى شك كان سابقًا لعصره بعشرات السنين، كما صرّح الكثير من معاصريه، أمثال الشهيد مطهري، وآية الله الأردبيلي والرئيس رفسنجاني، حتى أنّ الإمام الخميني وهو بعد في النجف؛ كان قد رشحه لرئاسة الجمهورية في إيران في حال انتصرت الثورة، حيث كان يعتبره الشخصية العلمية والفكرية والسياسية الأبرز، وأنّه إبنًا من أبنائه، موسى الصدر، هذا الإمام القائد والمقتدى الرائد كان ضحية مؤامرة رجيمة مع أخويه الشيخ محمد يعقوب والسيّد عباس بدر الدين، عندما اختطفهم حاكم ليبيا معمّر القذافي سنة 1978م، ولم يعرف مصيرهم حتى الساعة، هذا السيّد القائد سيبقى محط رحال العلماء الربانيين الشاهدين على أمتهم، سيبقى مثلهم الأعلى، والمثل القدوة الذي لم يضحِ بالحقيقة من أجل المصلحة ولو اجتمع العالم بأسره عليه، وسيبقى الملهم لكلّ الشاهدين المضحّين على امتداد الأرض ولو كره الظلاميون.
أخيرًا، إنّ استحضار وإعمال فكر الإمام الصدر في هذا الوقت بالتحديد هو ضرورة معرفية لحاضر ومستقبل هذه الأمّة، وهذا ما عملت عليه رباب الصدر، السيّدة الجليلة، شكرًا لكِ أنكِ أعدتنا للزمن الإلهي الجميل.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته…