رجل الفكر والفقه والتسامح العلّامة محمد حسين فضل الله
د. عباس خامه يار/ جريدة النهار/ في ذكرى رحيل السيد فضل الله
مع اقترابي من إتمام الفصل الأول من كتابي هذا، وهو عبارة عن مجموعة تجارب عايشتها خلال الأعوام الأخيرة ونشرتها في حينها، ثم جمعتها، حيث عنونتُ الفصل الأول بعبارة «وجوه وشخصيات»، كوّنتُ انطباعاً بعد جمع المقالات، بأنّني خصّصتُ هذا الفصل بالمجمل لشخصيّاتٍ وقاماتٍ عربيّةٍ ولبنانيّة. وبطريقةٍ تلقائيّة، تبادر إلى ذهني سؤالٌ عن قامةٍ لبنانية بل رمزٍ لا يمكن إلا أن تذكره صفحاتُ الكتب كلّما كان الحديث عن هذا البلد؛ إنّه السيد #محمد حسين فضل الله، العلّامة التقريبيّ (التقريب بين المذاهب) التنويريّ، الذي أحببتُ أن أختمَ هذا الفصلَ من كتابي بمسكِ ذكراه، وعبقِ أثرهِ الطيّب في نفوس محبّيه، وذلك من خلال الحديث عنه هنا بشكلٍ استثنائيّ، ومن دون مناسبةٍ معيّنة، كما فعلتُ في المقالات السابقة.
لطالما اقترن اسم العلّامة السيد فضل الله باسم لبنان وأخبار «الصحوة الإssلامية» منذ بداية انتصار #الثورة الإسلامية في إيران. وأنا مثل بقية أبناء وطني، كنت أسمع هذا الاسم باستمرار، وأزدادُ حبّاً له كلّ مرة، واحتراماً لحامله أكثر وأكثر.. ثمّ بعد مرور الوقت، ألحقَ بهذا الاسم عبارة «القائد المعنوي لحzب الله» لدى العديد من وسائل الإعلام آنذاك، ممّا جذبَ الإيرانيين إلى هذه الشخصية لمواقفه الثورية، دفاعه المنطقيّ والعقلانيّ عن الإمام الkhميني والجمهوریة الإssلامیة، تحليلاته العصريّة الجميلة والعلميّة، وتميّز خطابه عن خطاب الكثيرين من محبّي ومناصري الثورة في ذلك الوقت.
وقد تعرّفتُ إليه شخصيّاً، بفضل حضوره البارز منذ السنوات الأولى لانتصار الثورة الإssلامية في المناسبات والمؤتمرات، وبالنظر إلى المسؤوليّات التي كنت أتولاها في شبابي في مثل هذه المناسبات الخارجية، ممّا أدّى إلى بناء سبل التواصل معه وكسب صداقته، بالرغم من اختلاف السنّ والمقام العلميّ واختلافاتٍ أخرى بيننا.
خلال السنوات، توليتُ مراراً وتكراراً مسؤوليّة استضافته في مناسباتٍ كهذه، والتنسيق لرحلاته إلى إيران، وتعيين دليل لمرافقته، تماماً مثل بقية الشخصيات البارزة والضيوف غير الإيرانيين. من هنا، فإني أحمل الكثير من الذكريات الحلوة عن تلك الأيام، وأرغبُ في استحضارها بين الحين والآخر، تحت أيّ ذريعة.
لطالما تمتّع «العلّامة» بمكانةٍ خاصّة بين الضيوف الأجانب المشاركين في هذه المناسبات، وطبعاً بين الإيرانيين ومستضيفيه الإيرانيين دائماً، ولطالما كان النجم الساطع في المؤتمرات والاجتماعات واللقاءات، وكانت بعض كلماته تعتمد كوثيقة للمؤتمر كما في مؤتمر الانتفاضة الفلسطينية الذي عقد في #طهران العام 1989؛ وخلال تواجده، كان المنبر له قبل خطبة صلاة الجمعة المباركة في طهران وقم في ذلك الوقت، يُخاطب منه جموع المصلين ثم سائر المشاهدين والمستمعين والقراء عبر وسائل الإعلام. ومن بين الذكريات الكثيرة، التي كانت لي معه، صحبتُه أكثر من مرّة إلى مدینة مشهد المقدّسة وزيارة الإمام الرضا عليه السلام، والتي كانت تعدّ أعزّ لقاءاته خلال رحلاته إلى إيران دائماً. أذكر في إحدى الرحلات، التي كنت أجلسُ خلالها إلى جانبه في الطائرة، أنّ أحد مرافقيه اللبنانيين اقترب من مقعده خلال تحليق الطائرة مضطرباً، وقال بتعجّب: مولانا! لقد استمعتُ اليوم إلى أغنيةٍ لأم كلثوم المصرية المشهورة على إذاعة إيران! ثمّ استدرك قائلاً: بدون صوتها طبعاً! أجاب السيد فضل الله بهدوئه المعهود وابتسامته المطمئنة: لا يهمّ! لا تقلق! كلُّ ما يُبثُّ عبر وسائل إعلام الجمهورية الإسلامية هو حلالٌ كلُّه! هذه الإجابة حملت من الطرافة والذكاء ما أثار تعجّب المرافق أكثر وأكثر، وتعجّبي أنا كذلك! لا أنسى رحلات الثمانينيّات إلى لبنان وحضوري في مسجد الإمام الرضا(ع) في بئر العبد لأداء صلاة الجماعة بإمامته، وهذا المسجد هو الأشهر في لبنان لا بالنظر إلى كونه المؤسّس للحركة الإسلامية التي واكبت الثورة الإssلامية في إيران فحسب، بل أيضاً لأنّه المسجد الذي انطلقت منه الشرارة التي أسقطت اتفاق السابع عشر من أيار.
وقد سمعت الإشادات مراراً من بعض العلماء الإيرانيين الذين زاروا المسجد، واستمعوا لمحاضرات السید آنذاك. وقد كانت زياراتي للسيد فضل الله، ولهذا المسجد، تتزامن أحياناً مع مناسباتٍ مثل شهر رمضان المبارك، وعاشوراء محرم الحرام، وتجمّع الشباب في ذلك الوقت في داخل المسجد وفي باحته. تلك الأيام عصيّةٌ على النسيان. كذلك لا يمكنني أن أنسى لذّة سماع صوته وهو يؤدّي صلاة الفجر ونوافلها من مكبّر الصوت في مسجده، حيث كنتُ حينها أقطنُ قريباً منه. حتى لحظة الاستيقاظ من النوم على ذلك الصوت، كانت حلوة المذاق بالنسبة لي، مهما كان الحلم جميلاً! في تلك السنوات، وخلال تلك الرحلات، كان لقاء العلّامة فضل الله بالنسبة إليّ، سواء أكان خاصّاً أو في مناسباتٍ عامّة، أهمّ من كلّ ما ذكرت!
وبعد سنواتٍ، حين أرسلتُ في مهمةٍ ثابتة بصفتي ملحق بلادي الثقافي في لبنان بين العامين 1990 و1996، وبحكم عملي وعلاقاتي ومعارفي السابقة، ازدادت هذه المودّة والتقارب بطبيعة الحال. نادراً ما كان يأتي ضيفٌ من إيران ويلتقي به إلا ويعود من اللقاء مبهوراً. لطالما كان يستقبلُنا بقلبٍ كبير. كان حديثه مع ضيوفه الإيرانيين زاخراً بالقضايا المهمّة والتحليلات الفكرية والسياسية العميقة والحوارات الحميمة.. وكان خلال هذه اللقاءات بمثابة «الناصح الأمين» فكان يجذب مخاطبيه بقوّةٍ إلى جوهره ومخزونه الثريّ. من بين كلّ تلك اللقاءات، ثمّة لقاءٌ لا أنساه أبداً. لقاءٌ صريحٌ وغنيٌّ قبل عقدين من الزمن، اختصرَ حلاوة الزمن الجميل. اجتمع في ذلك اليوم دعاة الحوار والتقريب الشيخ محمد واعظزاده الخراساني أحد رواد التجديد في العصر الحديث، والشيخ محمد تقي مصباح يزدي، والشيخ محمد سالار، والدكتور محمد حسين تبرائيان، والسيد محمد حسين فضل الله، وقد كنتُ معهم فكانت بالنسبة إليّ لحظاتٍ نادرة في صفحات التاريخ.
حتى في الاجتماعات الخاصّة، كان محبّاً وودوداً، وكان يعاملني مثلما يعامل الأب ابنه، ولطالما كان فحوى كلامه أن الثورة الإسلامية هي في الحقيقة فرصةٌ لا تتكرّر للعالم الإسلامي، وتعدّ قيادة الإمام الkhميني والإمام الkhامنئي مصدر قوةٍ واقتدار بالنسبة إلى مسلمي العالم. وكان كثيراً ما يعبّر بأنّ خطاباته في صلاة الجمعة وإبراز مواقفه الداعمة لإيران في المناسبات السياسية والدينية المختلفة، لم تكن أبداً في خانة «المجاملة» أو «الحركة التكتيكيّة»، وإنما تنمّ عن إيمانٍ عميق وعقيدة راسخة، منشؤهما التحليل العميق والقراءة التاريخية لتطورات المنطقة والعالم الإسلامي. وأحياناً كثيرة، كانت له إشاراتٌ عابرة ونوعٌ من العتب أحياناً. لكن هذا العتب لم يكن ليمنعه من إكمال هذه المسيرة التي يؤمن بها بعمق. كنتُ كثيراً ما أستمتعُ بمتابعة حواراته السياسية والدينية والأدبية طبعاً مع القنوات التلفزيونية آنذاك، فكنتُ المتابع الوفيّ له على الدوام، أنتظرُ خطابه الجاذب والبليغ بحفاوة. وكنتُ بالطبع القارئ الدائم والمتابع لزاوية الزميل والصديق سركيس نعوم في جريدة “النهار” اللبنانية الشهيرة، بعنوان «الموقف هذا النهار» في العمود الأول على الجهة اليمنى من الصفحة الثانية في الجريدة حيث مازال حتى اليوم يكتب في هذه الزاوية. كان المقال يتناول شخصيّةً بلا اسم، يُشير بها إلى أقوال السيد بعبارة «المرجع الأبرز» تارةً، وتارةً بعبارة «مرجع دينيّ بالغ التأثير»، وتارةً بـ«المرجع الإسلامي الأبرز». كنتُ أستفيدُ كثيراً من متابعة هذه الزاوية. الآن، وأنا أمرُّ على تلك المجموعة من العناوين في كتاب «العلامة» لسركيس نعوم، والذي تلقّيتُه هديةً من مكتب السيّد مؤخّراً، أراني أستعيدُ تلك الأيّام مجدّداً.. كانت أياماً من العمر لا يُمكن لذاكرتي أن تنساها، وكم مرّت سريعاً!
أما بعد انتهاء عملي في لبنان وعودتي إلى بلادي، فقد حرصتُ على الحفاظ على هذا التواصل، وعلى أن أكونَ عنصرَ تقاربٍ في زمن الفتنة، وكما يقول أمير المؤمنين عليه السلام «كن في الفتنة كابن اللبون». وبدوره، لم يكن السيد فضل الله يتأخر في استقبالي بحفاوةٍ وحرارة، وكان كلّما رآني أعرب عن سروره بحواراتي وإطلالاتي على الشاشة قائلاً إنه يسرّ بحديثي دائماً، مشدّداً عليّ بالمضيّ قدُماً في هذا الطريق. كان يكرّر عليّ عبارة «الجمهورية الإssلامية بحاجة إلى شرح هذه المواقف وتبيينها للناس. الشعوب متعطّشة لسماع هذا الكلام..! لماذا لا تزيدونَ إطلالاتكم على الشاشات؟ لماذا لا تظهرون على وسائل الإعلام بصورةٍ أكبر؟! لماذا لا توضحون المواقف وتبيّنونَ الأطُر؟!».
هذا الكلام كان مسك ختام لقاءاتي به وحواراتي معه، وكان يردّدُ هذه العبارات وهو يرافقني إلى باب مكتبه بكلّ محبّةٍ وتواضع بينما أغادر. واليوم، ما زلتُ أسمعُ صدى هذه التوصيات في أذني وذهني وعقلي وروحي، ولا يسعني إلا أن أقول إنه كان على حق. فها هي بلادي اليوم بعد مرور سنوات، تصارعُ المكائدَ والمؤامرات، وتعاني من تكالب الأعداء عليها في شتّى أنواع الحرب النفسية والإعلامية والسيبرانية. رحمة الله وسلامُه على قلبِ لبنان الكبير…
( من كتاب « جرح و زیتون؛ أعیان وأزمان الصفحة ٢٧٧)